قال (اقْتَتَلُوا) على الجمع ولم يقل «فأصلحوا بينهم» لأن عند القتال يكون لكل منهم فعل برأسه ، أما عند العود إلى الصلح فإنه تتفق كلمة كل طائفة وإلا لم يتحقق الصلح فكان كل من الطائفتين كنفس واحدة فكانت التثنية أقعد. والبغي الاستطالة وإباء الصلح ، والفيء الرجوع وبه سمي الظل لأنه يرجع بعد نسخ الشمس ، أو لأن الناس يرجعون إليه ، والغنيمة لأنها ترجع من الكفار إلى المسلمين. ومعنى قوله (إِلى أَمْرِ اللهِ) قيل: إلى طاعة الرسول أو من قام مقامه من ولاة الأمر بقوله (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: ٥٩] وقيل: إلى الصلح لقوله (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال: ١] وقيل: إلى أمر الله بالتقوى فإن من خاف الله حق خشيته لا تبقى له عداوة إلا مع الشيطان. وإنما قال (فَإِنْ بَغَتْ) ولم يقل «فإذا» بناء على أن بغي إحداهما مع صلاح الأخرى كالنادر ، وكذا قوله (فَإِنْ فاءَتْ) لأن الفئة الباغية مع جهلها وعنادها وإصرارها على حقدها كالأمر النادر نظيره قول القائل لعبده: «إن مت فأنت حر». مع أن الموت لا بد منه وذلك لأن موته بحيث يكون العبد حيا باقيا في ملكه غير معلوم.
واعلم أن الباغية في اصطلاح الفقهاء فرقة خالفت الإمام بتأويل باطل بطلانا بحسب الظن لا القطع ، فيخرج المرتد لأن تأويله باطل قطعا ، وكذا الخوارج وهم صنف من المبتدعة يكفرون من أتى بكبيرة ويسبون بعض الأئمة. وهكذا يخرج مانع حق الشرع لله أو للعباد عنادا لأنه لا تأويل له. ولا بد أن يكون له شوكة وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال ، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي. والأكثرون على أن البغاة ليسوا بفسقة ولا كفرة لقوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) وعن عليّ رضياللهعنه: إخواننا بغوا علينا ولكنهم يخطؤن فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل كما وقع للخارجة عن عليّ رضياللهعنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص لمواطأته إياهم. وكما قال مانعو الزكاة لأبي بكر: أمرنا بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا وصلاة غير النبي صلىاللهعليهوسلم ليست بسكن لنا. واتفقوا على أن معاوية ومن تابعه كانوا باغينللحديث المشهور «إن عمارا تقتله الفئة الباغية» (١) وقد يقال: إن الباغية في حال بغيها ليست بمؤمنة وإنما سماهم المؤمنين باعتبار ما قبل البغي كقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) [المائدة: ٥٤] والمرتد ليس بمؤمن
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب ٦٣ مسلم في كتاب الفتن حديث ٧٠ الترمذي في كتاب المناقب باب ٣٤ أحمد في مسنده (٢ / ١٦١)