أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول. فجاء يوما وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا. فقال له رجل: أصبت مجلسا فاجلس. فجلس ثابت مغضبا ثم قال للرجل: يا فلان ابن فلانة يريد أمّا كان يعير بها في الجاهلية فسكت الرجل استحياء فنزلت. وقيل: نزلت في الذين نادوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم من وراء الحجرات واستهزؤا بالفقراء. وقيل: في كعب بن مالك قال لعبد الله: يا أعرابي. فقال له عبد الله: يا يهودي. وقيل: نزلت (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) في عائشة وقد عابت أم سلمة بالقصر. ويروى أنها ربطت حقويها بثوب أبيض وأسدلت طرفها خلفها وكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجر خلفها كأنه لسان كلب. وعن عكرمة عن ابن عباس: أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت: إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين. فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم: هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد. وتنكير القوم والنساء للبعضية أو لإفادة الشياع. وإنما لم يقل «رجل من رجل ولا امرأة من امرأة» زيادة للتوبيخ وتنبيها على أن السخرية قلما تصدر عن واحد ولكن ليشاركه في ذلك جمع من الحاضرين لأن ميل الطباع إلى التلهي والدعابة والازدراء بالضعفاء وأهل السآمة أكثريّ. وإنما لم يقل «رجل من امرأة» وبالعكس لأن سخرية الجنس من الجنس أكثر فاقتصر على ذلك والباقي فيه بالأولى. وقوله (عَسى أَنْ يَكُونُوا) كلام مستأنف ينبىء عن سبب النهي. عن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا. قوله سبحانه (وَلا تَلْمِزُوا) تأديب آخر واللمز الطعن باللسان. والمعنى حضوا أنفسكم بالانتهاء عن الطعن في أمثالكم من أهل هذا الدين ولا عليكم أن تعيبوا غير أهل دينكم. قيل: اللمز والسب خلف الإنسان ، والهمز العيب في وجهه الإنسان. وقيل: بل الأمر بالعكس لأن من تقاليب همز هزم ، وهو يدل على البعد ، ومن مقلوب اللمز اللزم وهو يدل على القرب فيشمل العيب بالإشارة أيضا. قوله (وَلا تَنابَزُوا) تأديب آخر والنبز بالسكون القذف بالمكروه من الألقاب ، واللقب من الأعلام ما دل على مدح أو ذم ، والنبز بالفتح اللقب القبيح فهو أخص من اللقب كما أن اللقب أخص من العلم. وإنما قال (وَلا تَنابَزُوا) ولم يقل ولا تنبزوا على منوال (وَلا تَلْمِزُوا) لأن النبز لا يعجز الإنسان عن جوابه غالبا فمن ينبز غيره بالحمار كان لذلك الغير أن ينبزه بالثور مثلا ولا كذلك اللمز فإن الملموز كثيرا ما يغفل عن عيب اللامز فلا يحضره في الجواب شيء فيقع اللمز من جانب واحد فقط. ثم أكد النهي عن التنابز بقوله (بِئْسَ الِاسْمُ) أي الذكر (الْفُسُوقُ) وفي قوله (بَعْدَ الْإِيمانِ) وجوه أحدها: استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول «بئس الشأن الصبوة