(ابْتَدَعُوها) طريقة الذم ولكن المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذورها. والرهبانية بفتح الراء مصدر وهو الفعلة المنسوبة إلى الرهبان بالفتح أيضا وهو الخائف «فعلان» من رهب كخشيان من خشي. وقرئ بالضم وهو نسبة إلى الرهبان جمع الراهب. وقوله (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) استثناء منقطع عند الأكثر أي ما فرضناها نحن عليهم ولكنهم ابتدعوها طلب رضوان الله. وقال آخرون: إنه متصل والمعنى ما تعبدناهم بها إلا على وجه تحصيل مرضاة الله فتكون ندبا إن أتى بها ارتضاها الله وإن لم يأت بها فلا حرج. وفي قوله (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أقول: أحدها أنهم ما أقاموا على تلك السيرة ولكنهم ضموا إليه التثليث والإلحاد إلا أناسا منهم أقاموا على دين عيسى حتى أدرجوا محمد صلىاللهعليهوسلم فآمنوا به ، وثانيها أن أكثرهم لم يتوسلوا بها إلى مرضاة الله ولكنهم جعلوها سلما إلى المنافع الدنيوية. وثالثها أن يكون في الكلام إضمار أي لم نفرضها أولا عليهم بل كانت على جهة الاستحباب ، ثم فرضناها عليهم فمارعوها إلا قليلا منهم آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم بعد أن استقاموا على الطريقة. ورابعها أن الصالحين من قوم عيسى ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ثم جاء بعدهم من لم يرعها كما رعاها الحواريون. ثم خاطب المؤمنين منهم بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي بعيسى (اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد صلىاللهعليهوسلم (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) لإيمانكم أولا بعيسى وثانيا بمحمد صلىاللهعليهوسلم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) وهو النور المذكور في قوله (يَسْعى نُورُهُمْ) أو النور المذكور في قوله (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام: ١٢٢] ويجوز أن يكون الخطاب لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم والمراد اثبتوا على إيمانكم برسول الله صلىاللهعليهوسلم يؤتكم ما وعد مؤمني أهل الكتاب في قوله (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) [القصص: ٥٤] وذلك أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوا الفضل عليهم فنزلت وفيه أنهم مثلهم في الإيمانين لأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله على أنه يجوز أن يكون النصيب الواحد من الأجر أزيد من نصيبين فإن المال إذا قسم نصفين كان الكفل الواحد نصفا ، وإذا قسم عشرة أقسام كان الكفل الواحد جزءا من عشرة. ولا شك أن النصيب الواحد من القسمة الأولى أزيد من النصيب الواحد من القسمة الثانية. قوله (لِئَلَّا يَعْلَمَ) الآية. أكثر المفسرين والنحويين على أن «لا» زائدة والمعنى ليعلم (أَهْلُ الْكِتابِ) الذين لم يسلموا أن الشأن لا ينالون ولا يقدرون على شيء من الكفلين. والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم فلم ينفعهم إيمانهم من قبله ، أو المراد أنا بالغنا في هذا البيان وأمعنا في الوعد لهم والوعيد ليعلم أهل الكتاب أن الشأن هو أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الأجر في طائفة مخصوصين. (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ