الحق يعطي الحق سائله». وإذا جاز ذلك مع التصريح بهما فكيف لم يجز وأحدهما محذوف؟ وهذا من غرائب نظم القرآن وفصاحته غير بعيد ، والمعنى ما أدخلكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن ذلك لأمور أربعة: أحدها ترك الصلاة ، والثاني ترك إطعام المسكين. قال العلماء: يجب أن يحمل هذان على الصلاة والصدقة الواجبتين وإلا لم يجز العذاب على تركهما. الثالث الشروع في الأباطيل مع أهلها كإيذاء أهل الحق وكل ما لا يعني المسلم. الرابع التكذيب بالبعث والجزاء إلى حين عيان الموت وأمارات ظهور نتائج أعمال المكلف عليه ، وقد يستدل بالآية على أن الكفار معذبون بفروع الشرائع كما يعذبون بأصولها كالتكذيب بيوم الدين. وإنما أخر لأنه أعظم الذنوب أي إنهم بعد ذلك كله يكذبون بهذا الأصل كقوله (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد: ١٧] ويجوز أن يكون سبب التأخير أنه آخر الأصول فأوّلها المبدأ وآخرها المعاد. وأيضا أراد أن يرتب عليه قوله (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) وهو آخر حالات المكلف فلو قدم لم يحسن معنى ولا لفظا لوقوع الفصل بين المعطوفات. قال في الكشاف: يحتمل أن كل واحد منهم دخل النار لمجموع هذه الأربع ، أو دخلها بعضهم ببعضها والباقون بسائرها أو بكلها. قلت: إنهم جميعا مستوون في الدركة والظاهر أنهم دخلوها بمجموع الأمور ، ثم بين غاية خسرانهم بقوله (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) وفيه دليل على أن غيرهم تنفعهم الشفاعة وذلك لغير الفساق عند المعتزلة ، وفائدة الشفاعة زيادة درجاتهم أو العفو عن صغائرهم ، ثم وبخهم بقوله (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ) أي عن القرآن الذي هو سبب الموعظة (مُعْرِضِينَ) حال نحو مالك قائما (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) من قرأ بكسر الفاء فمعناه الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها ، وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة ونداء عليهم بالبلادة والغباوة وعدم التأثر من مواعظ القرآن بل صار ما هو سبب لاطمئنان القلوب موجبا لنفرتهم ، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش ولا سيما إذا رابها ريب ولهذا وصف الحمر بقوله (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) وهى اسم جمع للرماة أو اسم جنس للأسد وهو القهر والغلبة ، وقال ابن عباس: هي ركز الناس وأصواتهم. وعن عكرمة: ظلمة الليل. ومن قرأ بفتح الفاء فهي المحمولة على النفار. ورجح بعضهم قراءة الكسر بناء على أن الفرار يناسب النفار. ذكر المفسرون أنهم قالوا لرسول الله: لا نتبعك حتى تأتي لكل واحد منا بكتب من السماء بصحف عنوانها من رب العالمين. إلى فلان ابن فلان نؤمر فيها باتباعك. وروى بعضهم انهم قالوا: إن كان محمدا صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة وأمنة من النار فأنكر الله تعالى فقال: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي قراطيس منشرة تقرأ كسائر الصحف ، أو منشرة على أيدي الملائكة