الأرض السابعة. والتحقيق أنه سبحانه أجرى أمور عباده على ما تعارفوه فيما بينهم ، ولا شك أن السفلة والظلمة والضيق وحضور الشياطين الملاعين من صفات البغض فوصف الله كتاب الفجار بأنه في هذا الموضع استهانة بهم وبأعمالهم ، كما أنه وصف كتاب الأبرار بأنه في عليين وتشهده الملائكة المقربون تعظيما لحالهم. ثم أوعد المكذبين ووصفهم بقوله (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ) للذم لا للبيان لأن كل مكذب فالوعيد يتناوله سواء كان مكذبا بالبعث أو بسائر آيات الله تعالى فهو كقولك «فعل فلان الفاسق الخبيث». وإنما خص التكذيب بالبعث لتقدّم ذكره وذكر ما يتعلق به. ثم بالغ في الذم بقوله (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) متجاوز عن حد الاعتدال في استعمال القوة النظرية إما في طرف الإفراط وهو الجريرة حتى عدّ الممكن محالا وأقدم على التكذيب ، وإما في طرف التفريط وهو البله والغباوة حتى قنع بالاستبعاد المحض وأعرض عن النظر في دلائل البعث من الخلق الأوّل وغيره. أثيم في إعمال القوى البدنية في غير مواقعها حتى أثمر له الباطل بدل الحق ، وحكم على آيات الله بأنها أساطير الأوّلين ، وفيه إنكار للنبوّة أيضا. ثم أضرب عن أن يكون لهم اختيار فيما قالوه أو يكون لهم ارعواء عما ارتكبوه ، لأن ما كسبوه قدران على قلوبهم أي ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها. قال أهل اللغة: ران النعاس والخمر في الرأس يرين رينا وريونا إذا رسخ فيه ، ولهذا قال الحسن: هو الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب. قلت: الغين هو الحجاب الرقيق الذي يزول عن كثب ومثله الغيم. والرين هو الغليظ الذي لا يرجى زواله ولهذا جاء في الحديث «إنه ليغان على قلبي» وأما الرين فمن صفة الكفار الذين صارت ملكاتهم الذميمة في غاية الرسوخ حتى أظلم سطوح قلوبهم بل دخلت الظلمة أجوافها وبلغت الكدورة صفاقها.
ثم قال (كَلَّا) حقا وهو ردع عن الكسب الرائن على القلب (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) وذلك أن النور لا يرى إلا بالنور ، فإذا كانت نفوسهم في غاية الظلمة الذاتية والعرضية الحاصلة من الملكات الردية احتجبوا عن نور الله ومنعوا من رؤيته. قال أهل السنة كثرهم الله: وفي تخصيصهم بالحجب دلالة على أن أهل الإيمان والأعمال الصالحة لا يكونون محجوبين عن ربهم. وقالت المعتزلة: المضاف محذوف أي عن رحمة ربهم أو كرامته. وقال في الكشاف: هو تمثيل للاستخفاف بهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين. ثم أخبر بقوله (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي داخلوها عن بقية حالهم وأنهم لا يتركون على حجب الحرمان بل يعذبون بنار القطيعة والهجران لأنهما متلازمان (ثُمَّ يُقالُ) في معرض التوبيخ (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) جمعا بين عذاب الوجل وعذاب الخجل.