التفسير: لما انجر الكلام في السورة المتقدّمة إلى ذكر الآخرة ، شرح في هذه السورة بعض أحوال المكلفين فيها. والغاشية القيامة لأنها تغشى الناس بشدائدها ، وكل ما أحاط بالشيء من جميع الجهات فهو غاش له قال الله تعالى (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [العنكبوت: ٥٥] وقال (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم: ٥٠] أي لم يأتك حديث هذه الداهية وقد أتاك الآن فاستمع. وقدّم وصف الأشقياء لأن مبنى السورة على التخويف كما ينبئ عنه لفظ الغاشية. والمراد بالوجه الذات ووجه حسن هذا المجاز أن الخشوع والانكسار والذل وأضدادها يتبين أكثرها في الوجه كقوله (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الشوري: ٤٥] والعمل والنصب أي التعب. قيل: كلاهما في الآخرة وهو الأظهر لقوله (يَوْمَئِذٍ) أي تعمل في النار عملا تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال وخوضها في النار خوض الدابة في الوحل وتردّدها في صعود من نار وحدور منها. قال الحسن: كان يجب عليها أن تعمل لله في الدنيا خاشعة ناصبة فلما قصر في ذلك وقع في مثله بعد المفارقة إلى أن يشاء الله ليكون معارضا بنقيض مقصوده. وقيل: كلاهما في الدنيا وهم أصحاب الصوامع خشعت وجوههم لله وعملت ونصبت في أعمالها من غير نفع لهم في الآخرة ، لأن أعمالهم مبنية على غير أساس من الدين الحنيفي. وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء فهي في نصب منها في الآخرة. ثم شرح مكانهم وهو النار الشديدة الحر ، ومشروبهم وهو من عين آنية أي متناهية في الحرارة ، ومطعومهم وهو الضريع. وإنما قدّم المشروب على الضريع المطعوم لأن الماء يناسب النار مناسبة الضدين أو الشبيهين من حيث بساطتهما ، أو لأنهم إذا أثر فيهم حر النار غلب عليهم العطش وكان الماء عندهم أهم ، ثم إذا أثرت فيهم الحرارتان أرادوا أن يدفعوا ألم الإحساس بها بما يزيد العذاب على البدن ، هذا مع أن الواو ليست للترتيب. قال الحسن: لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئا وقد يروى عنه أيضا أنه «فعيل» بمعنى «مفعل» كالأليم بمعنى المؤلم. والبديع بمعنى المبدع ومعناه إلا من طعام يحملهم على الضراعة والذل عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرارة. وعن سعيد بن جبير أنه شجرة ذات شوك. قال أبو الجوزاء: كيف يسمن من يأكل الشوك. وفي الخبر «الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حرا من النار» قال العلماء: إن للنار دركات وأهلها على طبقات: فمنهم من طعامه الزقوم ، ومنهم من طعامه غسلين ، ومنهم من طعامه ضريع ، ومنهم من شرابه الحميم ، ومنهم من شرابه الصديد (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر: ٤٤] ووجود النبت في النار ليس ببدع من قدرة الله كوجود