سابق فينصرف إلى الحقيقة فيكون المراد بالعسر في الموضعين شيئا واحدا ، وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير فكان أحدهما غير الآخر وزيفه الجرجاني بأنه من المعلوم أن القائل إذا قال: إنّ مع الفارس سيفا إن مع الفارس سيفا. لم يلزم منه أن يكون هناك فارس واحد معه سيفان. وأقول: إذا كان المراد بالعسر الجنس لا العهد لزم اتحاد العسر في الصورتين. وأما اليسر فمنكر فإن حمل الكلام الثاني على التكرار مثل (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن: ١٣] ونحوه كان اليسران واحدا. وإن حمل على أنه جملة مستأنفة لزم أن يكون اليسر الثاني غير الأول وإلا كان تكرارا والمفروض خلافه. وإن كان المراد العسر المعهود فإن كان المعهود واحدا وكان الثاني تكرارا كان اليسران أيضا واحدا ، وإن كان مستأنفا كانا اثنين وإلا لزم خلاف المفروض ، وإن كان المعهود اثنين فالظاهر اختلاف اليسرين وإلا لزم أو حسن أن يعاد اليسر الثاني معرفا بلام العهد فهو واحد والكلام الثاني تكرير للأول لتقريره في النفوس إلا أنه يحسن أن يجعل اليسر فيه مغايرا للأول لعدم لام العهد. ولعل هذا معنى الحديث إن ثبت والله أعلم ورسوله. وإذا عرفت هذه الاحتمالات فإن لم يثبت صحة الحديث أمكن حمل الآية على جميعها ، وإن ثبت صحته وجب حملها على وجه يلزم منه اتحاد العسر واختلاف اليسر. وحينئذ يكون فيه قوة الرجاء ومزيد الاستظهار برحمة الكريم. وأما اليسران على تقدير اختلافهما فقيل: يسر الدنيا ويسر الآخرة أي إن مع العسر الذي أنتم فيه يسر العاجل إن مع العسر الذي أنتم فيه يسر الآجل. وقيل: ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم في أيام الخلفاء الراشدين ، والأظهر الجنس ليكون وعدا عاما لجميع المكلفين في كل عصر. وحين عدد عليه النعم السابقة ووعده النعم اللاحقة من اليسر والظفر رتب عليه (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال قتادة والضحاك ومقاتل: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب أي اتعب للدعاء وأرغب إلى ربك في إنجاز المأمول لا إلى غير يعطك خير الدارين. وعن الشعبي: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك. وعن مجاهد: إذا فرغت من أمور دنياك لما وعدناك من اليسر والظفر فانصب للعبادة والدعوة. وعن شريح أنه مر برجلين يتصارعان فقال: ما بهذا أمر الفارغ وقعود الرجل فارغا من غير شغل قريب من العبث والاشتغال بما لا يعني ، فعلى العاقل أن لا يضيع أوقاته في الكسل والدعة ويقبل بجميع قواه على تحصيل ما ينفعه في الدارين والله تعالى عالم بحقائقه.