الصالح» (١) ولو أنصف العاقل وتأمل وجد نفسه في حال الغنى أشد افتقارا إلى الله لأن الفقير لا يتمنى إلا سلامة نفسه والغني يتمنى سلامة نفسه وماله وأهله وجاهه: وقيل: السين في (اسْتَغْنى) للطلب والمعنى أن الإنسان قد ينسى فضل الرب وعنايته في حالة أن رآه طلب الغنى فنال المنى بسبب الجهد والكد فينسب ذلك إلى كفاءته لا إلى عناية الله ، ولم يدر أنه كم من باذل وسعه في الحرص والطلب لم يحصل إلا على خفي حنين ، وأنه تعالى قد يرجع الغني آخر الأمر إلى حالة الفقر ليتحقق أن ذلك الغني لم يكن بفعله وكسبه ، وإنما ذلك بحول الله وقوته. وهاهنا نكتة وهي أن أول السورة دل على فضيلة العلم وبعدها دل علي مذمة المال فكفى ذلك مرغبا في العلم ومنفرا عن الدنيا. وفي قوله (إِنَّ إِلى رَبِّكَ) يا إنسان (الرُّجْعى) أي الرجوع وعيد وتذكير كأنه قيل: مصيرك إلى الله وإلى حيث لا يدفع عنك المال والكسب فما هذه الحيلة والعصيان والكبر والطغيان؟ يروى أن أبا جهل قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم: أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبرائيل فقال: يقول الله إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الدعاء إبقاء عليهم. وروي أن أبا جهل لعنه الله قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم قال: فو الذي يحلف به لئن رأيته توطأت عنقه فجاءه ، وهو صلىاللهعليهوسلم في الصلاة ثم نكص على عقبيه فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار فنزلت (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) أي أخبرني عمن ينهي بعض عباد الله وهذا خطاب للرسول صلىاللهعليهوسلم على وجه التعجب ، وفيه أنه صلىاللهعليهوسلم كان يقول: اللهم أعز الإسلام بعمر أو بأبي جهل بن هشام ، وكأنه تعالى قال له: يا محمد كنت تظن أنه يعز به الإسلام وهو ينهى عن الصلاة التي هي أول أركان الإسلام وكان يلقب بأبي الحكم فقيل له: كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه ويأمر بعبادة الجماد؟ وفي تنكير العبد دلالة على التفخيم كأنه قال: هو عبد لا يكتنه كنه إخلاصه في العبودية ولا يوصف شرح أخلاقه بالكلية. يروى أن يهوديا من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته وقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم. فقال عمر: اطلب من بلال فهو أعلم به مني. ثم إن بلالا دل على فاطمة عليهاالسلام وهي دلته على علي رضياللهعنه. فلما سأل عليا رضياللهعنه قال: صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه. فقال اليهودي: هذا لا يتيسر لي فقال علي رضياللهعنه: عجزت عن وصف الدنيا وقد حكم الله بقلته حيث قال (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ)
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١٩٧ ، ٢٠٢).