السَّماءِ) [النساء: ١٥٣] وكقوله (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر: ٥٢] قال الجبائي: في قوله وما تفرقوا إلا من بعد كذا دلالة على أن الشقاوة والسعادة لم يثبتا في الأزل ولا في أصلاب الآباء. وزيف بأن المراد ظهور التفرق منهم لا حصوله في علم الله وهو ظاهر. قوله (وَما أُمِرُوا) أي وما أمروا بما أمروا به في التوراة والإنجيل إلا لأجل أن يعبدوا الله على حالة الإخلاص والميل عن الأديان الباطلة. فقوله (حُنَفاءَ) حال مترادفة أو متداخلة (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) موصوفها محذوف أي دين الملة القيمة. ويعلم من هذا الإخبار أن الأمر المذكور ثابت في شرعنا أيضا كما في شرعهم ، ويحتمل أن يراد وما أمروا على لسان محمد صلىاللهعليهوسلم قاله مقاتل. استدل بالآية من قال: إن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والعمل بيانه أن الله تعالى ذكر العبادة المقرونة بالإخلاص وهو التوحيد ، ثم عطف عليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم أشار إلى المجموع بقوله (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ورد بالمنع من أن المشار إليه هو المجموع ، ولم لا يجوز أن يكون إشارة إلى التوحيد فقط؟ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يراد بدين القيمة الدين الكامل المستقل بنفسه وهو أصل الدين ونتائجه وثمراته؟ ثم ذكر وعيد الكفار ووعد الأبرار. وقدم في الوعيد أهل الكتاب على المشركين ، والسر فيه بعد ما مر أنه صلىاللهعليهوسلم كان يقدم حق الله على حق نفسه ولهذا حين كسروا رباعيته قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وحيث فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال: ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا فقال الله تعالى: كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضا أقدم حقك على حقي ، فمن ترك الصلاة طول عمره لم يكفر ، ومن طعن فيك بوجه يكفر. ثم إن أهل الكتاب طعنوا فيك فقدمتهم في الوعيد على المشركين الذين طعنوا فيّ ، وأيضا المشركون رأوه صغيرا يتيما فيما بينهم. ثم إنه بعد النبوة سفه أحلامهم وكسر أوثانهم وهذا أمر شاق يوجب العداوة الشديدة عند أهل الظاهر. وأما أهل الكتاب فقد كانوا مقرين بنبي آخر الزمان وكان النبي صلىاللهعليهوسلم مثبتا لنبيهم وكتابهم فلم يوجب لهم ذلك عداوة شديدة ، فطعنهم في محمد صلىاللهعليهوسلم طعن في غير موقعه فاستحقوا التقديم في الوعيد لذلك وكانوا شر البرية ، وهذه جملة يطول تفصيلها شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا على سفلتهم طريق الحق ، وشر من الجهال لأن العناد أقبح أنواع الكفر ، وفيه دلائل على أن وعيد علماء السوء أفظع. قوله في هذه الآية (خالِدِينَ فِيها) وفي آية الوعد (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) إشارة إلى كمال كرمه وسعة رحمته كما قال «سبقت رحمتي غضبي» (١) قال العلماء: هذه الآية مخصوصة في صورتين إحداهما
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٢٢. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٢٥٨).