هو بين أصبعين من أصابع الرحمن واعلم أن المستعاذ به مذكور في السورة الأولى بصفة واحدة وهو أنه رب الفلق ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات: الغاسق والنفاثات والحاسد. وأما في السورة الثانية فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث وهي الرب والملك والإله ، والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة. وفيه إشارة إلى أن حفظ النفس والدين أهم من حفظ البدن بل الثاني مطلوب بالعرض والأوّل مقصود بالذات.
التأويل: أعوذ بالرب الذي فلق ظلمات بحر العدم بنور التكوين والإبداع من شر عالم الخلق الممزوجة خيراتها بالآفات ، ولا سيما عالم الكون والفساد الذي هو جماد ونبات وحيوان والجمادات أبعدها عن الأنوار لخلوها عن جميع القوى الروحانية وهو المراد بقوله (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ) وفوقها النباتات الناميات في الأقطار الثلاثة الطول والعرض والعمق وهن العقد الثلاث فلذلك سميت قواها بالنفاثات فيها ، وفوقها القوى الحيوانية من الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب المانعة للروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الأمر كالحاسد يمنع المرء عن كماله ويغيره عن حاله. ثم أراد ذكر مراتب النفس الإنسانية التي هي أشرف درجات الحيوان فقال (بِرَبِّ النَّاسِ) إشارة إلى العقل الهيولاني المفتقر إلى مزيد تربية وترشيح حتى يخرج من معدنها ويظهر من حكمها. وقوله (مَلِكِ النَّاسِ) إشارة إلى العقل بالملكة لأنه ملك العلوم البديهية وحصلت له ملكة الانتقال منها إلى العلوم الكسبية لأن النفس في هذه الحالة أحوج إلى الزجر عن العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة والتأديب في الصغر كالنقش على الحجر. وقوله (إِلهِ النَّاسِ) إشارة إلى سائر مراتبها من العقل بالفعل والعقل المستفاد ، فإن الإنسان إذ ذاك كأنه صار عالما معقولا مضاهيا لما عليه الوجود ، فعرف المعبود فتوجه إلى عرفانه والعبادة له. وأيضا اتصف بصفاته وتخلق بأخلاقه كما حكي عن أرسطو أنه قال: أفلاطون: إما إنسان تأله أو إله تأنس. ثم إن العقل والوهم قد يتساعدان على تسليم بعض المقدمّات ، ثم إذا آل الأمر إلى النتيجة ساعد العقل عليها دون الوهم فكان الوهم خنس أي رجع عن تسليم المقدّمة فلهذا أمر الله سبحانه بالاستعاذة من شره ، وقد ورد مثله في الحديث. وروى أبو هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» (١) وهذا آخر درجات النفس الكاملة الإنسانية فلا جرم وقع ختم الكتاب الكريم والفرقان العظيم
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب ٣. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢١٢ ـ ٢١٤. أبو داود في كتاب السنّة باب ١٨. أحمد في مسنده (٢ / ٢٨٢ ، ٣١٧) (٣ / ١٠٢).