وقيل : كنى بالشطر الأول عن اتّصافه بالجود ، وبالثاني عن لزوم الجود له.
ويحتمل وجها آخر ، وهو : أن يكون كل منهما كناية عن اختصاصه به ، وعدم الاقتصار على أحدهما للتأكيد والتقرير ، وذكرهما على الترتيب المذكور لأن الأولى بواسطة بخلاف الثانية.
وكقولهم : «مثلك لا يبخل» قال الزمخشري : نفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك ؛ فسلكوا به طريق الكناية ؛ لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه ، وعمن هو على أخصّ أوصافه ؛ فقد نفوه عنه.
ونظيره قولك للعربي : «العرب لا تخفر الذّمم» فإنه أبلغ من قولك : «أنت لا تخفر».
ومنه قولهم : «أيفعت لداته ، وبلغت أترابه» يريدون إيفاعه وبلوغه.
وعليه قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : الآية ١١] على أحد الوجهين وهو أن لا تجعل الكاف زائدة.
قيل : وهذا غاية لنفي التشبيه ؛ إذ لو كان له مثل لكان لمثله شيء (يماثله) وهو ذاته تعالى ، فلما قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) [الشّورى : الآية ١١] دل على أنه ليس له مثل.
وأورد أنه يلزم منه نفيه تعالى ؛ لأنه مثل مثله ، ورد بمنع أنه تعالى مثل مثله ، لأن صدق ذلك موقوف على ثبوت مثله ، تعالى عن ذلك!.
وكقول الشّنفرى الأزديّ في وصف امرأة بالعفة :
يبيت بمنجاة من اللّوم بيتها |
|
إذا ما بيوت بالملامة حلّت (١) |
فإنه نبّه بنفي اللوم عن بيتها على انتفاء أنواع الفجور عنه ، وبه على براءتها منها ، وقال : «يبيت» دون «يظلّ» لمزيد اختصاص الليل بالفواحش.
هذا على ما رواه الشيخ عبد القاهر والسكاكي ، وفي الأغاني الكبير ، «يحلّ بمنجاة».
وقد يظنّ أن هنا قسما رابعا ، وهو أن يكون المطلوب بالكناية الوصف والنسبة معا ، كما يقال : «يكثر الرماد في ساحة عمرو» في الكناية عن أن عمرا مضياف ، وليس بذاك ؛ إذ ليس ما ذكر بكناية واحدة ، بل هو كنايتان : إحداهما عن المضيافية ، والثانية عن إثباتها لعمرو.
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو للشنفرى في المفضليات ص ١٠٩ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٩.