وقد ظهر بهذا أن طرف النسبة المثبتة بطريق الكناية يجوز أن يكون مكنيّا عنه أيضا كما في هذا المثال ، ونحوه بيت الشنفرى المتقدم ؛ فإن حلول البيت بمنجاة من اللوم كناية عن نسبة العفّة إلى صاحبه ؛ والمنجاة من اللوم كناية عن العفة.
واعلم أن الموصوف في القسم الثاني والثالث قد يكون مذكورا كما مر ، وقد يكون غير مذكور ، كما تقول في عرض من يؤذي المسلمين : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (١) أي : ليس المؤذي مسلما.
وعليه قوله تعالى في عرض المنافقين : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : الآية ٢](الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : الآية ٣] إذا فسّر الغيب بالغيبة ، أي : يؤمنون مع الغيبة عن حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أصحابه رضي الله عنهم ، أي هدى للمؤمنين عن إخلاص لا للمؤمنين عن نفاق.
وقال السكاكي : الكناية تتفاوت إلى تعريض ، وتلويح ، ورمز ، وإيماء ، وإشارة.
فإن كانت عرضية فالمناسب أن تسمّى تعريضا.
وإلّا ؛ فإن كان بينهما وبين المكني عنه مسافة متباعدة لكثرة الوسائط ـ كما في كثير الرماد وأشباهه ـ فالمناسب أن تسمّى تلويحا ؛ لأن التلويح هو أن تشير إلى غيرك عن بعد.
وإلّا ؛ فإن كان فيها نوع خفاء ؛ فالمناسب أن تسمى رمزا ، لأن الرمز هو أن تشير إلى قريب منك على سبيل الخفية ، قال :
رمزت إليّ مخافة من بعلها |
|
من غير أن تبدي هناك كلامها (٢) |
وإلا ؛ فالمناسب أن تسمّى إيماء وإشارة ، كقول أبي تمام يصف إبلا :
أبين ، فما يزرن سوى كريم |
|
وحسبك أن يزرن أبا سعيد (٣) |
فإنه في إفادة أن أبا سعيد كريم غير خاف ، وكقول البحتري :
__________________
(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٥ ، والرقاق باب ٢٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ٦٤ ، ٦٥ ، وأبو داود في الجهاد باب ٢ ، والترمذي في القيامة باب ٥٢ ، والإيمان باب ١٢ ، والنسائي في الإيمان باب ٨ ، ٩ ، ١١ ، والدارمي في الرقاق باب ٤ ، ٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٠ ، ١٦٣ ، ١٨٧ ، ١٩١ ، ١٩٢ ، ١٩٥ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٩ ، ٢١٢ ، ٢١٥ ، ٢٢٤ ، ٣٧٩.
(٢) البيت من الكامل ، وهو في مفتاح العلوم ص ١٧٤.
(٣) البيت من الوافر ، وهو في ديوان أبي تمام ص ٨٢ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٤١ ، والطراز ٢ / ٤٢٤.