العشاء الأخيرة ، وذلك أنهم كانوا قبل الحريري وصدرا من ولايته يأخذ عبيد الخدام وبعض الفراشين شعلا من سعف ، فيطوفون بها عوض الفوانيس يجرون بها كأشد ما يكون من الجري ، فإن وصلوا باب النساء خرجوا بها ، وخبطوا بما بقي معهم منها ، فكانت تسود المسجد وتسود بابه أيضا ، وفيها من البشاعة ما لا يخفى ، فأمر بالفوانيس عوضا ، وترتبت في صحيفته رحمهالله تعالى ، وكان يوالي المجاورين ويحسن إليهم ويقضي حوائجهم.
وسيأتي فعله مع المجاورين حين أمر الأمير منصور بإخراجهم وارتحالهم بأولادهم وعيالهم ، ومناقبه كثيرة ، وحسناته عديدة. توفي سنة إحدى عشرة وسبعمائة.
ثم خلفه في المشيخة سعد الدين الزاهري (١) ، ولم يمكث إلا قليلا نحو سنتين ، وكان قد عمي وكفّ بصره ، فلم يقم بوظيفة المشيخة على ما ينبغي ، فلما حج الملك الناصر (٢) الحجة الثانية وهي سنة تسع عشرة وسبعمائة وقدم المدينة زائرا ودخل الحرم ، فوجده أعمى ، فعظم ذلك على السلطان فعزله ، ثم ولّى في الحين ظهير الدين مختار (٣) الأشرفي رحمهالله ، وكان له هيبة وصولة مع زمانه بالنسبة إلى من قبله ، فقام بالمشيخة أحسن قيام ، وأدخل الرعب في قلوب الشرفاء والأمراء ، واستخلص من أيديهم أوقافا وأملاكا كانوا هم وآباؤهم فيهما كالمارستان اليوم ، والفرن الذي أمامه ، والحوش الذي بإزائه ، ودار المدرسة الشهابيّة ، ونخيل وغير ذلك.
ولأجل هيبته عزّ المجاورون والخدام ، وقويت حرمتهم ، ولم يزل كذلك حتى حج النائب أرغون (٤) ، وشكوا عليه ما يلقون من الشيخ ، فكأنه تكلم عليه بحضرتهم كلاما غض من صولته ، ورده عن شدته ، ولم يمكث بعد ذلك إلا قليلا حتى توفاه الله إلى رحمته.
__________________
(١) ترجمته في : «الدرر الكامنة» ١ / ٣٩٤ (١٤٨٦).
(٢) هو الناصر محمد بن قلاوون.
(٣) ترجمته في : «الدرر الكامنة» ٤ / ٣٤٥ (٩٣٨).
(٤) هو : أرغون الدوادار ، أحد مماليك السلطان منصور ، اشتراه ورباه مع ابنه الناصر محمد.
انظر ترجمته في : «الدرر الكامنة» ١ / ٣٥١ (٨٧٣).