قلت : أظن أن هذه القصة فى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، فإن القاضى شهاب الدين زار المدينة النبوية فى قافلة كبيرة ، وكانت للقاضى شهاب الدين ملاءة كبيرة ، ومعاملات مع الناس.
وكان يقصده الناس كثيرا ليرهنوا عنده ويبيعونه أموالهم ، وكان يسلف غالب أرباب الوظائف بالحرم وأهل الصرر ، ويأمره كل منهم بقبض ما يصل إليه فى الصندوق الحكمى من القاهرة ، وربما حمل الصندوق الحكمى إلى منزله فى بعض السنين لاستحقاقه لما فيه ، بسبب مداينته للمشار إليهم ، وكان إذا قبض ذلك ، أعطى كلا منهم ما يحتاجه ، وصبر عليه إلى العام القابل ، وأذن له فى قبض ما يصل إليه ، وكانت فيه شهامة وقوة نفس.
وبلغنى أن آقبغا عبد الواحد ، أحد أعيان الأمراء بمصر ، قدم مكة حاجا فى بعض السنين ، فاجتمع به القاضى شهاب الدين للسلام عليه ، عند مقام إبراهيم عليهالسلام.
فعاتبه آقبغا على كونه لم يسلم عليه قبل وصوله إلى المقام ، وعلى كونه لم يتلقاه إلى وادى مر ، فقال له القاضى شهاب الدين : أستاذك الملك الناصر ، لم أسلم عليه إلا عند باب بنى شيبة. فكيف آتيك إلى بطن مر؟. وكان آقبغا سكن برباط أم الخليفة الناصر لدين الله العباسى ، المعروف بالعطيفية ، لكون عطيفة أمير مكة ، كان يسكن به. وكان آقبغا يجلس على بناء مزاور عند بابها ، ويجلس الناس تحته ، فجاء إليه القاضى شهاب الدين وجلس قبالته على بناء مقابل لذلك البناء.
وكان بعض الأشراف من الأدارسة ، حصلت منه إساءة على القاضى شهاب الدين فأدبه القاضى شهاب الدين أدبا كثيرا ، وتوقع الناس أن يحصل للقاضى شهاب الدين من ذلك تشويش ، لكون الشريف من أعيان الدولة ، فما رأى سوءا ، وجاءه أمير البلد وأعوانه يسترضونه ؛ لأنه أظهر أنه يريد السفر من مكة. واستدعى بالجمال غضبا مما صدر من الشريف.
وكان فيه مع قوة نفسه تواضع ، واتفق له ذلك فى حكاية ظريفة ، وهى أنه ذهب إلى بلاد بجيلة فى جماعة من أصحابه للتنزه بها ، فلما وصلوا إليها اشتهر خبر وصوله بها ، فاتفق أنه خرج من الموضع الذى نزل فيه يريد البراز ، وانتهى إلى بعض كروم البلد ، فناداه شخص فى ذلك الكرم فأتاه ، فقال له المنادى : أنت من أصحاب حكموا مكة؟ يعنى قاضى مكة ، فقال : نعم. فقال : احمل هذا ـ وأشار إلى وعاء كبير فيه عنب ـ