مرسيلية
ثم سافرنا منها يوم الخميس بعد الظهر فبلغنا مرسيلية في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة ، ولهذه المدينة مرسى عظيم يسع ألفا ومائتي سفينة ولا يزال مشحونا بالبواخر. ولكثرة ورود المراكب إليها قطعوا خليجا من البحر ووصلوه به. وفيها عدّة مكاتب وملهى يعدّ من أحسن ملاهي أوربا ، وبستان للنباتات ، ومكتبة موقوفة ، ومصرف فسيح أعني البورس (١١٣). وفي ضواحيها أكثر من خمسة آلاف دار ، ولها تجارة واسعة مع المشرق وإفريقية وأميركا وإنكلترة والبحر الأسود ، كان تأسيسها في سنة ٥٩٩ قبل الميلاد ، وكانت في الزمن القديم ملحقة بولايات الرومانيين ومنها توصّلوا إلى فتح فرنسا.
وفي هذه المدينة محال عظيمة للقهوة مغشاة حيطانها ، وسقوفها بالمرايا والنقوش والتماثيل ، وأمامها مصاطب يقعد عليها الناس ، وإن لم يشتروا شيئا منها. وأهل المدينة يصرفون فيها أكثر أوقاتهم كل طبقة منهم تنتاب منها محلا خاصا. وفي بعضها ترى قيانا حسانا يغنين وهنّ كاشفات الصدور ، وعند ملهاها عدّة ديار تسكنها المومسات يستدعين الغادي والرائح ، وهي وسخة الحارات والأطراف لكنها بهيّة الحوانيت والديار مبلّطة الطرق. وليس في ديارها مراحيض وإنّما يجمعون أقذارهم في وعاء إلى أن يأتي رجل معه عجلة وعليها برميل كبير فيناولونه الوعاء فيفرغه في البرميل. وما يجمعه فيه فإنه يبيعه لتدميل الأرض ، ولا أعرف مدينة أخرى بهذه الصفة ، ومنهم من يقذف بالأقذار أمام البيوت ليلا فلهذا يشم الماشي في أكثر طرقها رائحة كريهة ، وماؤها في بعض الديار أجاج ولعدم الاكتفاء به نهروا إليها نهرا كبيرا من مسافة نحو ستّين ميلا ، فأحوج ذلك إلى أن ينقبوا له بعض الجبال ، ثم بنوا عليه جسرا عظيما يشتمل على نحو ثلاثة صفوف من القناطر بعضها فوق بعض ، وفي كلّ صفّ خمسون قنطرة ، وارتفاع علياها من الحضيض نحو مائة وعشر أذرع ، وعرض الماء الجاري فيه تسع أذرع ونصف في علوّ مثلها ، وجميع أحجار هذا الجسر
__________________
(١١٣) يقصد سوق الأوراق المالية (بورصة). (م).