عنده إلى نصف الليل ، فما يدعوهما إلى المبيت عنده. أما قوله باحتتان حالاتها ، وبكثرة دكاكينها ، وبترفّه الأعيان والعظماء فيها ، فاحتتان حالاتها هو كون جميع الأزمنة والأمكنة فيها متساوية ، أمّا في الأزمنة فليس عند الإنكليز في أيام السنة كلها يوم للحظ واللهو ، فلا تعرف فيها رأس السنة من ذنبها ، وليس عندهم أيام للبطالة ، ما عدا أيام الآحاد سوى عيد الميلاد ، ويوم الجمعة الكبيرة. ولكن يوم البطالة هنا هو يوم الإنقباض والإكتئاب إذ لا ترى شيئا يقرّ العين ، فقد أسلفنا أن جميع الحوانيت تكون يومئذ مغلقة. ومن العجب هنا أنه يؤذن لباعة التبغ في فتح دكاكينهم يوم الأحد ، ولا يؤذن لباعة الخبز واللحم ، فكأن التبغ ألزم للمعيشة من غيره. ثم لا مثابة للناس ينبسطون بها سوى التردد على تلك الغياض ، وهي خالية من المطاعم والمشارب وآلات الطرب على قلة ما فيها من المقاعد ، وهي في الغالب بعيدة عن سكنى العامّة والوسط ، وإنما هي مجعولة لحظ الكبراء القاطنين في الديار المجاورة لها ، فإن كل شيء هنا معن به اسم العلية ، وقد مرت الإشارة إلى هذا. نعم إن في صباح الأحد في لندرة لذّة لا تقدر ، ولا تنظر بالنسبة إلى نحس الأيام الأخر ، وهي قلة قرقعة العجلات وسائر المراكب ، فقد كنت أحسب نفسي في صباح كل أحد أني ساكن في الريف ، فأما في سائر الأيام فإن توالي هذه القرقعة داهية من أعظم الدواهي ، فمن لم يتعود عليها لن يهنئه نوم ولا قعود ، ولن يمكنه أن يجمع أفكاره في رأسه ، وإذا مشى اثنان في الطريق لزم المتكلم أن يصرخ بأعلى صوته ليسمعه الآخر ، فأعوذ بالله من ذلك.
الحوانيت
فأما كثرة الحوانيت فقد تقدم ذكرها في أول الكلام على لندرة ، وبقي هنا أن أقول إنك في جميع حوانيت لندرة تجد ما يلزم للملبوس والمفروش ناجزا عتيدا ، فإذا دخلت مثلا حانوت إسكاف وجدت عنده عشرة آلاف زوج نعال معرضة للبيع ، فاخترت منها ما شئت ، وقس على ذلك سائر أصناف الملبوس. ومن شاء أن يفرش صرحا في ثلاث ساعات وجد كل ما يخطر بباله من الأدوات والأواني ، ونحو ذلك