منازل الأعيان والعظماء في لندرة
وأما قوله بترفّه الأعيان والعظماء وإسرافهم فقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام على أخلاقهم وأحوالهم. وإنما نقول هنا إن هؤلاء الأماجد يسكنون في حارات معلومة من المدينة فرارا من الزحام ومن اختلاطهم بالأوباش ، فترى بقعة فسيحة عظيمة في لندرة ليس فيها سوى ديار متصافّة متصاقبة ، وهي بالنظر إلى وسط المدينة مظلمة موحشة إذ ليس فيها حوانيت ولا مطاعم ولا ملاهي ، لكنها نظيفة سالمة تكاثف الأوحال ، وضغط السائرين وقرقعة العجلات. ومع ما هم فيه من البحبحة والنعيم فيها والإنفراد ، فلا بد وأن يكون لكل منهم دار في الخلاء يسكنها في الصيف ، ففي هذا الصقع الجليل تسطع أنوار السعادة من أبراجهم العلويّة ، وهناك ترى الخدم والحشم ، والخيل المطهّمة والعواجل النفيسة ، وهناك تميد الموائد بما عليها من الأطعمة الفاخرة المجلوبة من جميع البلدان ، وهناك تتيه الكلاب على كثير من بني آدم ممن يتضورون جوعا ، ويهلكون من الوسخ والبرد والعريّ ومن أكل اللحوم المنتنة في أزقة لندرة القذرة ، فليس بين الجنة والجحيم في هذه المدينة بعد ما بين الجنّة والجحيم في الآخرة.
جحيم لندرة
وهاك مثالا على سقر لندرة ، قال في بعض الصحف إن مائة وثمانين نفسا ما بين رجل وامرأة وولد يسكنون في أربع وثلاثين حجرة. وفي أخبار الكون كان يمكث في حجرة واحدة من أربعة عشر نفسا إلى عشرين ليلا ونهارا ، وكان يسكن في حجرة أخرى رجلان مع زوجيهما وأرملتان وثلاث بنات وعزب وثلاثة أولاد ، فجملتهم أربعة عشر نفسا قد جعلوا أنفسهم عيلة عيلة ، كل عيلة تبوأت زاوية من الحجرة. وفي موضع آخر يسمى ساحة فلتشر حجرتان لا تزيدان على سبع أقدام عرضا في عشر طولا ، وقد اشتملتا على ثمانية وعشرين نفسا ، ما أحد منهم يعرف القراءة ، وليس تحتهم وطاء سوى التبن إلا واحدا منهم ، ولا غطاء لهم في الليل سوى ثيابهم