مختلفة ، فهو يصنع قصيدة واحدة من جميع بحور العروض. وأمّا المخاسر فلأن السمع لا يتمكّن كلّ التمكن من إدراك جميع مخارج تلك الأصوات المتغايرة. وهذه الطريقة عندي على الآلات أحسن منها على الأصوت.
الثالث : إن غناء الإفرنج هو مثل قراءتهم في أنه لا يخلو من حماسة وتهييج فضلا عن التشويق والتطريب والترقيص ، فغناء الحماسة والتهييج هو الذي يكون به ذكر القتال ، وأخذ الثأر ، والذب عن الحقيقة ، فإذا سمعه الجبان ولا سيّما من الآلات العسكرية هانت عليه روحه. أمّا الغناء العربي فكلّه تشويق وغرامي ، وأجدر به أن يكون جامعا لمعنى الطرب ، وهو خفّة تصيب الإنسان من فرح أو حزن ، فإذا سمع أحد منّا صوتا أو آلة شغف قلبه الغرام ، فبدت صبابته ، وحنّتنفسه كما يحنّ الإلف إلى إلفه حتى يصير عنده آخر الفرح ترحا. ولا غرو إن صعد منه الزفرات ، وأذرف العبرات فإن السرور إذا تفاقم أمره وتكامل بدره دبّ فيه محاق الشجن ، واختلط به الحزن حتى يستغرق صاحبه في بحر من الوجد ، ويشتعل بنار من الهيام ، وعلى ذلك ورد قولهم طربه وشجاه من الأضداد.
الرابع : إنّ الإفرنج لا قرار لأصواتهم إلا على الرصد ، نعم إن جميع الأنغام يوجد لها مقامات في آلاتهم ، بل توجد أنصافها وأرباعها ، إلا مقامين منها لا أنصاف لهما ، إلا إنهم لا يقرّون إلا على المقام الأول ، وقد سمعت منهم الرهاويّ والبوسليك والأصفهاني ، أمّا غيرها فلم اسمعه قط بل قد سمعت منهم بعض أغان من أغانينا أوقعوها على آلاتهم فكانت كلّها رصدا. وقد والله طالما وقفت السمع على أن أسمع منهم أنغامنا فخبت حتى اعترتني الحيرة ؛ فإنّي من جهة كنت أرى آلاتهم بديعة الصنعة على كثرتها وأفكر في أن العلوم انتهت إليهم ، والفنون قصرت عليهم ، وإن عندهم في هذا الفن بدائع كثيرة فاتتنا على ما سبق ذكره. ومن جهة أخرى أرى أن براعتهم كلّها إنّما هي من مقام الرصد ، نعم إنّ هذا المقام هو أول المقامات وإنه يغنّى منه في مصر وتونس أكثر ممّا يغنّى من غيره إلا أن فضل الصّبا