ومحافظة عليها المترفون ، لأنهم يعتقدون أن في الدين زوالا لهيبتهم وذهابا لعظمتهم ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) ، وقد أرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلّم إلى الناس كافة بدينه الذي ارتضاه لخلقه ، واختاره لعباده ، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فكان موقف أمته منه موقف الأمم السابقة من رسلها ، ولم تستحدث الأيام خلقا ، ولا حالت من الزمن العهود.
بدأ محمد صلى الله عليه وسلّم ، بدعوة العرب ، وكانوا وقتئذ أقل الناس حظا وأشقاهم عيشا ، وأبينهم ضلالة ، بأسهم بينهم شديد ، يقتتلون لأقل الأمور وأحقر الأسباب ، وكانوا متفرقين لا تجمعهم وحدة ، ولا يشملهم نظام ، وكان يجاور العرب دولتان عظيمتان : دولة الفرس ، ودولة الروم الشرقية ، استولت كل واحدة منهما على ما جاورها من بلاد العرب ، وجعلت عليه حاكما من العرب ، يعمل لها وينفذ إرادتها ، ويرعى مصالحها ، وبهذا الوضع كان العرب محصورين في جزيرتهم ، قانعين بما فيها من مفاوز وصحراوات. دعاهم صلى الله عليه وسلّم إلى خير الأمور ، وأفضل الأعمال : دعاهم إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة الأصنام ، لأنها لا تضر ولا تنفع ، ولا تعطي ولا تمنع ، ولا تدفع عن نفسها أذاة ، ولا تميط قذاة ، ولا تخلق حصاة ، ومع ظهور الحجة ووضوح البرهان ، وتنبيههم للحق في كثير من الآيات ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) إلى غير ذلك من الأمثال التي صرفها الله تعالى في كتابه ، ومع كل ذلك لم يؤمنوا به ، بل كذبوه أشد تكذيب وبالغوا في الإنكار ، وقالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). ومن جهلهم زعموا أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلّم الناس إلى عبادة الله ، وترك عبادة الأصنام ، لم تكن إلا لأنه صلوات الله عليه يكره الأصنام ، ويريد الانتقام منها ، لأن بعضها اعتراه بسوء ، وألحق به ضررا ، فقالوا : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا