هذه الاُمّة العريضة الطويلة في المكان والزمان ، لها من التراث العلمي والأدبي والحضاري ، ما ضاقت عنه أرضها الواسعة ففاض على الآخرين مشاعل نور ، انساح نورها فعمّ الأرض كلّها .
تراث هذه الاُمّة أضخم تراث عرفته الدنيا ، وحسبك إنّ ما بقي من مخطوطات اللغة العربيّة فقط ثلاثة ملايين مخطوط ، عدا ما اجتاحته النكبات وأودت به الملمّات ، فضلاً عن أخوات للعربيّة أثمرن فأطيبن وأكثرن كالفارسيّة والتركيّة والاُردويّة . . .
وحسبك أنّ رجال هذه الاُمّة وأعلامها نيفوا على نصف مليون علم ، كما يقول أحد علماء التراجم .
أمّا تراثها الغنيّ ـ بناءً وزخرفةً وخطّاً ونقشاً وابتكاراً ـ ممّا يقرّ العين ويبهج القلب ، فحدّث عن البحر ولا حرج .
هذا التراث الذي صرفت فيه جواهر الأعمار ، وبذلت في سبيله أنوار العيون ، وحماه السلف ذوو الفضل بمهج النفوس ، حريّ بمن يعرفه أن يغار عليه ، وأن يحوطه كما حاطه السابقون .
أذكر ـ فيما أذكر ـ أنّ أمين مكتبة من هؤلاء الذين ليس لهم بالكتاب علاقة إلّا قبض المرتّب رأس كلّ شهر ، طلبت منه تصوير مخطوطة من نفائس كتبنا ، تمتاز بجودة الخطّ وغرابته ، ونفاسة الموضوع وأهمّيّته ، وكانت النسخة ناصلة الأوراق من جلدها ، قد تكسّر من حوافّها الثلاثة ما يقرب من السنتيمتر من كلّ ورقة .
جاءني بالمخطوطة وسألني : هل يصوّرها كلّها ، حتى الكلمة التي دوّنها مالكها المتأخّر ؟ !
فأخذت النسخة ، وكحلت عيني برؤيتها ، وطلبت تصويرها كلّها ـ من الجلد إلى الجلد ـ وأعطيته المخطوطة ، فأخذ يعدّل أوراقها بضرب حوافّها على منضذة أمامه وكسار الأوراق يتناثر وقلبي ينزو بين أضلاعه ، فما ملكت نفسي أن قلت له : ما كفاكم ، أن ألقت بين أيديكم عوادي الزمان بهذه الدرّة المصونة ، ممزّقة الاهاب ، مفككّة الأوصال .
فلا برسول الله صلّى الله عليه وآله ـ وهو أبو هذه النسخة التي تفتخرون بملكيّتكم لها ـ . . . اقتديتم ، حيث أمر بإعزاز كريم ذلّ ،
ولا الرحمة استشعرتم ، فأسوتم لحالها وأشفقتم عليها .
حتى صرتم ترضّون ضلوعها ، وتسيلون دموعها .
فضحك مني . . وذهب يصوّرها .