وكان في وادٍ . . وكنت في وادٍ آخر .
فعلى كلّ طالب لفنّ التحقيق أن يستشعر الغيرة على هذا التراث القيّم ، والغيرة من سمات رشد الاُمّة ، وما ضاعت نفائس كتبنا إلّا حين قصرنا عن الرشد وقلّت الغيرة فينا ، فكان رجال ينسبون لهذه الاُمّة ـ وهي منهم براء ـ سماسرة للأجانب ـ في أقدس مدننا ـ يجمعون المخطوطات بثمن بخس ـ لتستقرّ في المتحف البريطاني وغيره من مكتبات الأجانب .
وأسماء هؤلاء معروفة مذكورة بالسوء ، منهم من مضى ومنهم من غبر .
٣ ـ الذكاء ودقّة الملاحظة :
وهذه سمة يقتضيها الإبداع في كلّ علم ، والتقدّم والتجديد في كلّ فنّ ، وكلّ مبدع في تاريخ البشرية لم يكن ليبدع في فنّه لولا صفات منها : الذكاء ودقّة الملاحظة . . . ولولاها لما زاد العارف بعلم من العلوم أن يكون نسخة مكرورة من اُستاذه بل نسخة من الكتاب الذي قرأه .
وقد قيل لأحد العلماء : إنّ فلاناً قد حفظ الكتاب الفلاني ، فقال : زادت في البلد نسخة .
هذه الملاحظة الدقيقة شرط ضروري في فنّنا الذي نحن بصدده ، لأنّ رسم الخط العربي متشابه الصور متقارب الأشكال ، ومعاني الألفاظ في العربيّة متقاربة ، لأنّ هذه اللغة الكريمة لغة اشتقاقيّة تجمع كل اُسرة من الألفاظ آصرة واحدة ومعنى عام تشتقّ منه المعاني الفرعيّة ، التي هي قريب من قريب .
فإن لم يكن المحقّق دقيق الملاحظة إشتبه عليه ـ مثلاً ـ ( كتب ) من الكتابة المعروفة و ( كتب القربة ) أي خاطها بسير من جلد ، وربّما صحّح الثانية بما يحلو له من لفظ بناء على أنّها خطأ ، وهي ـ في الحقيقة ـ ليست خطأ إلّا في ذهنه وحده .
وتصحيح التصحيف ـ في الغالب ـ يعتمد على هذه الصفة في المحقّق ، ولا يظنّ أنّ المحقّق يحتاج هذه الصفة في تصحيح التصحيف فحسب ، بل هو محتاجها في أغلب أعماله ، فأسماء الرجال ، وواقع الحياة في كلّ عصر ، وظروف النصّ الذي يحقّقه ما ظهر منها وما خفي ، تحتاج إلى هذه الدقّة في الملاحظة لكي لا يتسرّب الخطأ من باب من أبواب الغفلة ، أو ثغر من ثغور الذهول .