ومن هذا الضرب أيضا قوله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ.) فقال أولا (خَرَّ مِنَ السَّماءِ) بلفظ الماضي ، ثم عطف عليه المستقبل وهو «فتخطفه وتهوي» ، وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهويّ الريح به في مكان سحيق.
ومنه كذلك قول تأبط شرا :
بأني قد لقيت الغول تهوي |
|
بشهب كالصحيفة صحصحان |
فأضربها بلا دهش فخرّت |
|
صريعا لليدين وللجران (١) |
فتأبط شرا قصد في هذين البيتين أن يصوّر لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغول كأنه يريهم إياها مشاهدة ماثلة أمام أعينهم للتعجب من جرأته على ذلك الهول. ولو قال : «فضربتها» عطفا على الفعل الماضي قبله وهو «لقيت» لزال الغرض البلاغي المذكور.
أما الضرب الثاني ، وهو الفعل المستقبل الذي يدل على معنى مستقبل غير ماض ، ويراد به أنه فعل مستمر الوجود لم يمض فكقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فإنه إنما عطف الفعل المستقبل (يَصُدُّونَ) على الماضي (كَفَرُوا) لأن كفرهم كان
__________________
(١) الغول بالضم : الحية ، والسعلاة ، والداهية ، وكل ما اغتال الإنسان وأهلكه فهو غول ، وكانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات والصحارى تتراءى للناس فتتغول تغولا ، أي تتلون تلونا في صور شتى فتضلهم عن الطريق وتهلكهم. وعلى هذا المعنى تكون الغول التي ورد ذكرها في البيت قد تمثلت لتأبط شرا في صورة ناقة أو جمل.
والصحصحان : الأرض المستوية الواسعة ، والجران بكسر الجيم : مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره ، وإذا برك البعير ومد عنقه على الأرض قيل : ألقى جرانه بالأرض.