النفس ما دامت تكون بالقوّة يمكن لها اكتساب أيّ مرتبة شاءت لمكان استعدادها قبل صيرورتها بالفعل شيئا من الأشياء المتحصلة ، وأمّا إذا صارت مصوّرة بصورة فعلية ، واستحكمت فعليّتها ورسوخها ، وقوي تعلّقها ، ولصوقها بالنفس ، فاستقرّت على تلك المرتبة ، وبطل عنها استعداد الانتقال من النقص إلى الكمال ، والعبور من حال إلى حال ، فإنّ الرجوع إلى الفطرة الاولى ، والعود إلى مرتبة التراب ، والهيولاني ، كما في قوله تعالى : (لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) مجرد تمنّي أمر مستحيل كما مرّ ، والمحال غير مقدور عليه (١).
هذا مضافا إلى احتفاف الدنيا بأنواع المصيبات والآلام التي لا تكون معها لائقة لجزاء الأولياء والأنبياء والصالحين ، بل المناسب لهم هو جزاؤهم بما لا يحتف بهذه المكاره والمصائب ، وهو لا يكون إلّا الآخرة ، على أنّ مجازاة الكفرة والعصاة بدون تنبههم بما فعلوا في الدورات السابقة ، ليست بمجازاة ، فالتناسخ لا يمكن أولا ، وعلى فرض إمكانه قامت الضرورة على خلافه ثانيا.
هذا مضافا إلى عدم مناسبتها للجزاء بالنسبة إلى الصالحين ، لاحتفافها بالمكاره ، وبالنسبة إلى الصالحين لغفلتهم عن المكافاة ، ومضافا إلى ما أفاد بعض أساتيذنا مدّ ظله ، من أنّ الجزاء هو النعمة المحضة التي لا يشوبها تكليف ، ومسئولية ، والنعم الدنيويّة ليست كذلك ؛ لعدم خلوّها عن التكليف ، والمسئولية كما لا يخفى.
فإذا عرفت هذه المقدمات ظهر لك أنّ عدالته تعالى ، تقتضي المعاد ، وهو أمر أرشد إليه القرآن الكريم في ضمن آيات عديدة ، منها : قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) (٢).
__________________
(١) المبدأ والمعاد : ص ٢٥٣ ـ ٢٥٤.
(٢) إبراهيم : ٤٢.