المطر ، ويشبّه الناس المنتفعون بإقبال الدنيا بناس زراع ، ويشبّه اكتمال أحوال الحياة وقوة الكهولة بهياج الزرع ، ويشبّه ابتداء الشيخوخة ثم الهرم وابتداء ضعف عمل العامل وتجارة التاجر وفلاحة الفلاح باصفرار الزرع وتهيئه للفناء ، ويشبه زوال ما كان للمرء من قوة ومال بتحطم الزرع.
ويفهم من هذا أن ما كان من أحوال الحياة مقصودا لوجه الله فإنه من شئون الآخرة فلا يدخل تحت هذا التمثيل إلا ظاهرا. فأعمال البر ودراسة العلم ونحو ذلك لا يعتريها نقص ما دام صاحبها مقبلا عليها ، وبعضها يزداد نماء بطول المدة ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الزمر.
(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).
كان ذكر حال الحياة الدنيا مقتضيا ذكر مقابلة على عادة القرآن ، والخبر مستعمل في التحذير والتحريض بقرينة السياق ، ولذلك لم يبين أصحاب العذاب وأصحاب المغفرة والرضوان لظهور ذلك.
وكني عن النعيم بمغفرة من الله ورضوان لأن النعيم قسمان مادي وروحاني ، فالمغفرة والرضوان أصل النعيم الروحاني كما قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] وهما يقتضيان النعيم الجسماني لأن أهل الجنة لما ركبت ذواتهم من أجسام وأودعت فيها الأرواح كان النعيمان مناسبين لهم تكثيرا للذات ، وما لذة الأجسام إلا صائرة إلى الأرواح لأنها المدركة اللذات ، وكان رضوان الله يقتضي إعطائهم منتهى ما به التذاذهم ، ومغفرته مقتضية الصفح عما قد يعوق عن بعض ذلك.
وعطف (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) على (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) للمقابلة بين الحالين زيادة في الترغيب والتنفير.
والكلام على تقدير مضاف ، أي وما أحوال الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
والحصر ادعائي باعتبار غالب أحوال الدنيا بالنسبة إلى غالب طالبيها ، فكونها متاعا أمر مطرد وكون المتاع مضافا إلى الغرور أمر غالب بالنسبة لما عدا الأعمال العائدة على المرء بالفوز في الآخرة.
والغرور : الخديعة ، أي إظهار الأمر الضار الذي من شأنه أن يحترز العاقل منه في صورة النافع الذي يرغب فيه.