الكائنات كلها ، إذ لا تخلو مما تبصرون وما لا تبصرون ، منعطفا إلى حقيقة ناصعة في ذاتها ومعطياتها : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فالقرآن بذاته شهادة على مصدره الرسالي الإلهي ، دون حاجة إلى براهين منفصلة عنه تدل عليه ، فاللاقسم هنا تأديب وزجر للمرتابين ان يفكروا في القرآن نفسه فيستدل كلّ بزاويته الخاصة التي تهمه ، إذ القرآن معجزة خالدة في كافة جوانبه وزواياه ، فليجل جال بصره وليقصر ناظر نظره إلى القرآن نفسه هل يرى فيه شعرا أو كهانة وسحرا ، إلا تنزيلا من رب العالمين ، تلمس فيه ربوبيته العالمية.
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) : قول رسول لا يقوله إلا عن مرسله دون أن يتقول عليه الأقاويل ، وهو كريم ليس على غيب الوحي بضنين ، هو واسع صدره متفتح قلبه ، لا يخون أمانة الوحي كالسماء ذات الرجع لا تخون (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (٨٦ : ١٢) إنه أمين كريم ليس كيانه في حياته إلا الرسالة الإلهية وبلاغها.
(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٣٦ : ٦٩) يبين بذاته أنه ذكر وليس شعرا وخيالا موزونا ، رغم ما يتقولون عليه دون برهان انه شاعر : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ (٢١ : ٥) (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (٣٧ : ٣٦) (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٥٢ : ٣٠) هل هو شاعر؟ (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ... إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (٢٦ : ٢٢٤) فقد ينشد الشاعر عن إيمان وصدق ، وأحيانا كثيرة عن الخيال واللاإيمان ، وهما مشتركان في زخرفة المعنى بموسيقى القول ، ما يزيد المعنى لمعانا لو كان صادقا ، وما يريه حقا لو كان باطلا ، وحاشى الرسول الكريم أن يزخرف الوحي بما ليس منه! ولماذا؟ فهل ليزيد في نضارة القرآن ، وهو فوق القمم في فصاحة التعبير وبلاغة التنسيق! ..
ثم لا نجد أيا من أوزان الشعر وأوهامه وأساطيره في هذا الذكر المبين ،