وبما ان الطرائق جمع طريقة ، والقدد جمع قدة وهي المستمرة بالقدّ في جهة واحدة ، المشقوق طولا ، نستوحي أنهم كانوا ولا يزالون في مبادئ متباينة ، كل يباين الآخر ، كما المقدود يباين بعضه البعض ، وبما أن أقل الجمع ثلاثة فطرائقهم المباينة إذا : رسلهم ومردة الشياطين وبينهما المؤمنون على شتات درجاتهم ، فلا رسل الجن يكفرون أو يفسقون ، ولا شياطينهم يرسلون او يؤمنون ، ولا المتوسطون يشيطنون ، وان كان المرسلون يصطفون من بينهم ولا بدّ ، ونرى القرآن هكذا يقتسم الجن الى هؤلاء الثلاث ومنهم الشياطين وهم ذرية الشيطان الأكبر وذريتهم أيضا ، هم قدة مستمرة في الكفر لا يؤمنون كأنهم من صنف آخر : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (١٨ : ٥٠) وهذه ميزة أخرى بين الجن والإنس ، إذ لا نجد من الإنس من هم قدة مستمرة في الكفر بذرياتهم ، فقد يولد مؤمن من كافر أو كافر من مؤمن.
هنا نكرر براءة رسل الجن عما ينسب إليهم أنهم كانوا ذيولا لسفهائهم قبل سماع القرآن ، سنادا الى تفسير رديء لقولهم (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) رغم انه يطهرهم للغاية كما اسبقناه ، ثم هذه الآية تجعلهم من الصالحين تماما منذ كانوا ، مما يذود عنهم وصمة الغواية عن جهالة.
فهؤلاء الرسل الكرام ، القدة الصالحة ، مرسلون الى من هم دون ذلك ، الى شياطينهم وسفهائهم لإلزام الحجة ، والى من بين القدتين لإيضاح المهجة ، ولئلا تكون لهم حجة على الله بعد الرسل ولله الحجة البالغة.
وما أجمل هذا التقرير عن مصير الجن في بيئتهم : ازدواجية الطبيعة والاستعداد لكلا النجدين : الخير والشر ، إلا من تمحّض منهم للشر وهو إبليس وقبيله بذريتهم ، ومن تمحض للخير كرسل الجن ، تمحضا بالطبع والسعي معا ، رغم التصور الغالط عندنا وحتى بعض الدارسين : ان الجن يمثلون الشر أيا كانوا! وأن الإنسان وحده بين الخليقة هو ذو طبيعة مزدوجة ،