فهؤلاء ـ وهم رسل الجن ـ أقواهم بينهم ـ يعترفون بعجزهم عن الهروب من سلطان الله والإفلات من قبضته ، والفكاك من قدرته ، شاعرين بسلطان الله عليهم أينما كانوا ، وعلى الخلق أجمع ، فكيف بشياطينهم!
وعلى أثر هذا الاعتراف الصادق النابغ ، النابع من قلوبهم الصافية الضافية ، أصبحت حياتهم تحسسا وتجسسا عن الحق الصراح ، النازل بوحي السماء :
(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).
إنهم سمعوا القرآن (قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) وسمّوه هدى وهو هدى مزدوج ، يهدي المتحسسين عن وحي السماء ، الى أنه وحي السماء ، ثم يهديهم الى رشد الحياة ، فالإيمان به إذا ايمان مزدوج ، وليس تقليديا ، وإنما عن برهان ، ايمان بوحيه وهداه.
(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) والايمان بالقرآن ايمان بمن أنزله ، فانه تعالى تجلى بعلمه وهداه في قرآنه ، فالناكرون القرآن إنما ينكرون الله او يكذبونه لو كانوا يعقلون.
ثم هكذا ايمان متين مسنود الى برهان مبين يزيل عن صاحبه كل خوف ، (فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) : بخسا : نقصا على سبيل الظلم أو كل نقص ، ولا رهقا : شمول الاضطراب.
لا يخاف في حياة الايمان وسبيله واقع البخس ولا توقّعه ، في مال أو جاه أو نفس ، فهي كلها فداء في سبيل الله ، تجارة مربحة لا بخس فيها ولا نقص ، ولأن الايمان يؤمن الإنسان عن المخاوف ويطمئنه عن الإرهاق ، وعلى حد المروي عن الامام الرضا عليه السلام : من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.
ولا يخاف ـ كذلك ـ رهقا : اضطرابا يشمله ولماذا يضطرب؟ ألفقد مغريات الحياة الدنيا وزخرفاتها؟ فما هي إلا متاعا لتجارة لن تبور! يستبدل