ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت منه رعبا فرجعت فقلت : دثروني فدثروني فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(١). هذا وكما كان متدثرا عن قيام البلاغ منذ كان حتى زمن الرسالة ، فكان عليه ـ إذا ـ دثارا فوق دثار ، فأمر بالتحلل عنهما إلى الإنذار.
إن الدثار ما يلبس فوق الشعار وأصل المدثر المتدثر تدثرا بثيابه لينام أو ليستدفئ ، وما تدّثره في الرمضاء ، إلا لما أخذته من رعشة الوحي وهيبته ، كأن زالت حرارته بغزارة الوحي ورعشته ، فتدثر وكان حقه أن يتدثر ، وبما أن مكوثه هكذا بداية الوحي ولو قليلا ، يخيل أنه مسموح له الدثار نوما أو تدفؤا ، يؤمر آنذاك بالقيام عنه إلى الإنذار ، فلا عليه ولا له وهو رسول أن يكون نائما دثورا مستترا مستدفئا ، وإن كان من وقعة الوحي ، فليتعود القيام والإقدام طالما العراقيل تحول بينه وبين القيام ، وليعش القيام حياته : روحيا وجسدانيا وعقليا وعلميا ، وبكل ما يملكه وما ملّكه ربّه من طاقات وإمكانيات ، فالعمر قصير ، والسير عسير ، ودافع القعود كثير ، فلا يسمح له إذا ـ الدثار ـ أي دثار ، دثار الجسم والروح ، دثار الإنذار والتبشير ، فليتجرد عن الدّثر كلها ، إلى الإنذارات كلها.
وقد تتحمل السورة كلها أنها أنزلت بعد ما شاعت دعوة الرسول وواجهته السفاسف والأقاويل السوء : أنه مجنون أو كاهن أو شاعر ، وكل ذلك من طواغيت قريش : أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والنضر بن الحرث وأمية بن خلف
__________________
(١) الدر المنثور ٦ : ٢٨٠ عن جابر بن عبد الله الانصاري ، وفيه ان المدثر أول ما نزل من القرآن ـ اي : بعد الخمس من العلق ويلمح له قوله (ص) هنا الذي جاءني بحراء إذا فهذا مجيئه الثاني ـ وعل الاول كان يحمل سورة الحمد اضافة الى الخمس كما تدل على البسملة بالبيان المسبق في سورة العلق.