(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ... وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٣٤ : ٤٤).
تجد الجواب في : (قَبْلَكَ) فإذ لم يأتهم نذير في الفترة بين المسيح ومحمد (ص) ، فقد جاءهم النذير الأخير محمد ، وفيه الكفاءة إنذارا وفيه المزيد ، وانما الآية توضح السبب في تصلبهم في الكفر : أنهم لم يأنسوا بالنذر قبله ، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم يلاقي أشد الصعوبات في الدعوة ، وعليه أن يصّعّد أصعب العقبات فيها : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٦ : ٧).
ثم إذا كان واقع الإنذار شرطا لزاما في جواز العذاب ، فما هي ـ إذا ـ حال من عاشوا زمن الفترة كما بين محمد والمسيح (ص)؟ أو عاشوا في البلاد المنقطعة عن النذر أو عن إنذارهم كأمريكا ، إذ اكتشفت قبل حوالي خمسة قرون؟ أو عاشوا في الفترة بين النبيين ، بعد موت السابق وقبل بعث اللاحق ، أو عاشوا في زمنهم ولكنهم لم يواجهوهم في دعوتهم؟ فليس هناك ـ طوال التاريخ ـ إلا القلة القليلة من الكفار الذين تحق لهم النار ، لأنهم أتاهم ـ أنفسهم ـ نذير! ثم الكثرة الكثيرة لا يعذبون ، إذ لم يأتهم نذير!
هنا وهناك تعرف الجواب إذا تعرفت إلى كيان النذير ، الذي يفرض الحجة على المتخلفين :
إن الإنسان ـ غير المجنون والصغير ـ إنه يعيش نذرا طوال حياة التكليف ، مهما اختلفوا في مدى الإنذار وكيفيته ، وطول مدته وقصرها ، وقوة حجته وأقواها :
فالعقل نذير ، والضمير الإنساني نذير ، والفطرة نذيرة ، وهذه نذر أنفسية دواخل ذواتنا ، وهي أسس الإنذار ، يتبنّاها المنذرون المرسلون ، وتتبنّاها الآيات الآفاقية في دلالتها وإنذارها ، (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).