ومما لا يريبه شك أن هناك قرى كثيرة ما أتتهم الرسل : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) (٢٥ : ٥١) ولأن الأصل المبنية عليه الحجة ليس إلا وصول الإنذار الحجة ، لا مواجهة أصحاب الوحي كل القرى بكل الأمم ، ولأنها مستحيلة في الواقع ، إضافة إلى عدم لزومها فيما يرام.
صحيح أن النذر والحجج تختلف ، والبيآت تختلف ، والعقول تختلف ، ولكنما الجزاء كذلك يختلف ، وفاقا لاختلاف هذه المبادئ ، و «إنما يداق الله الناس في الحساب يوم القيامة على قدر عقولهم» (١).
ثم المكلفون في الفترة الرسالية على حد التعبير المسبق ، لم يعيشوا إلا فترة رسولية ، لا رسالية ، حيث الإنسان ـ كائنا من كان ـ يعيش دعوات الرسل ورسالاتهم ، المودعة في كتاباتهم ، والمنقولة على ألسنة خلفائهم وعلماء أممهم ، فهم رغم أنهم لم ينذروا بالرسل : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (٣٦ : ٦) ـ هؤلاء الآباء غير المنذرين ـ ولكنهم أنذروا بحملة الرسالات من العلماء والنبهاء ، وعلى أقل تقدير بنذر عقولهم وفطرهم ، وأخيرا لو كانوا قاصرين أو مستضعفين فهم (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فالتوبة عليهم لضعف الحجة ، والعذاب ـ ولا ريب أنه قليل ـ لأصل الحجة ما داموا عقلاء! ذلك (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
وأما العائشون في مثل أمريكا ، فمن أين انهم كانوا منقطعين عن الرسالات ، الفصل البحار حولهم؟ فعلها كانت متصلة قبل اكتشاف امريكا ، اتصالا بريا ، أم بحريا بقرب السواحل ، ثم ابتعدت لفترة ، اكتشفت لآخرها ، أم ـ كأبعد الاحتمالات ـ كانت المواصلات بحرية رغم بعد سواحلها ، وأخيرا ، لو تأكدنا من انقطاع المواصلات كلها ، بين أمريكا وأراضي الوحي ، فمن المحتمل المعقول ، بل المدلول عليه بالآيات ، أنه كان فيهم منذرون ، مستقلون بالوحي ، أم من أتباع رجالات الوحي : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ..) (٤٠ : ٧٨).
__________________
(١) اصول الكافي : باب العقل والجهل عن الامام الباقر ع.