لأن معناه : فعد همك عما ترى. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزدرى بفقراء المؤمنين ، وأن تنبو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى زىّ الأغنياء وحسن شارتهم (١) (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في مرضع الحال (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) من جعلنا قلبه غافلا (٢) عن الذكر بالخذلان (٣). أو وجدناه غافلا عنه ، كقولك : أجبنته وأفحمته (٤) وأبخلته ، إذا وجدته كذلك. أو من أغفل إبله إذا تركها (٥) بغير سمة ، أى : لم نسمه بالذكر ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان وقد أبطل الله توهم المجبرة (٦) بقوله (وَاتَّبَعَ هَواهُ) وقرئ : أغفلنا قلبه ، بإسناد الفعل إلى القلب على معنى : حسبنا قلبه غافلين ، من أغفلته إذا وجدته غافلا (فُرُطاً) متقدّما للحق والصواب (٧) نابذا له وراء ظهره من قولهم «فرس فرط» متقدّم للخيل.
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)(٢٩)
__________________
(١) قوله «وحسن شارتهم» في الصحاح : الشوار والشارة : اللباس والهيئة. (ع)
(٢) قال محمود : «معناه جعلنا قلبه غافلا عن الذكر ... الخ» قال أحمد : هو يشمر للهرب من الحق ، وهو أن المراد خلقنا له ، وجدير به أن يشمر في اتباع هواه ، فان حمل «أغفل» على بابه صرفه إلى الخذلان ، وإلا أخرجه بالكلية عن بابه إلى باب أفعل للمصادفة ، ولا يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله إلى ذاته بالمصادفة إلى تفهيم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم.
(٣) قوله «غافلا عن الذكر بالخذلان» يتحاشى بذلك عن خلق الغفلة في قلبه ، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة ، وأهل السنة على خلاف ذلك كما أشار إليه بقوله : توهم المجبرة. ثم إن اتباعه هواه لا ينافي خلق الله الغفلة في قلبه ، لجواز أن يكون ذلك ناشئا عن الغفلة. (ع)
(٤) قوله «كقولك أجبنته وأفحمته» في الصحاح «أفحمته» وجدته مفحما لا يقول الشعر. (ع)
(٥) عاد كلامه. قال : «ويجوز أن يكون المعنى من أغفل إبله إذا ... الخ» قال أحمد : وهذا التأويل فيه رقة حاشية ولطافة معنى ، وغرضه منه الخلاص مما قدمناه ، لأنه وإن أبى خلق الله الغفلة في القلب فلا يأبى عدم كتب الايمان ، وإنما غرضنا التنبيه على أن مقصد الزمخشري الحيد عن القاعدة المتقدمة ، والتأويل إنما يصار إليه إذا اعتاص الظاهر وهو عندنا ممكن ، فوجب الاعتصام به ، والله الموفق.
(٦) عاد كلامه. قال : «وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله : واتبع هواه» قال أحمد : قد تقدم في غير ما موضع أن أهل السنة يضيفون فعل العبد إلى الله تعالى من حيث كونه مخلوقا له ، وإلى العبد من حيث كونه مقرونا بقدرته واختياره ، ولا تنافى بين الاضافتين ، فبراهين السنة تتبعه أينما سلك وأية توجه ، فلا محيص له عنها بوجه.
(٧) قوله «متقدما للحق والصواب» أى سابق له ومجاوز له ، وفي الصحاح : أمر فرط ، أى مجاوز فيه الحد. ومنه قوله تعالى (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).