أن لا يخلد في الدنيا بشرا ، فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت. فإذا كان الأمر كذلك فإن مت أنت أيبقى هؤلاء؟ وفي معناه قول القائل :
فقل للشّامتين بنا أفيقوا |
|
سيلقى الشّامتون كما لقينا (١) |
أى نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا ، وبما يجب فيه الشكر من النعم ، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر ، وإنما سمى ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم ، لأنه في صورة الاختبار. و (فِتْنَةً) مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه.
(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ)(٣٦)
الذكر يكون بخير وبخلافه ، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد ، كقولك للرجل : سمعت فلانا يذكرك ، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء ، وإن كان عدوّا فذمّ (٢). ومنه قوله تعالى (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) وقوله (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) والمعنى أنهم عاكفون على ذكر آلهتهم بهممهم وما يجب أن لا تذكر به ، من كونهم شفعاء وشهداء. ويسوءهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك. وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية ، فهم به كافرون لا يصدّقون به أصلا فهم
__________________
(١) وما أن طبنا جبن ولكن |
|
منايانا ودولة آخرينا |
فقل للشامتين بنا أفيقوا |
|
سيلقى الشامتون كما لقينا |
لذي الأصبع العدواني. وقيل : لفروة بن مسبك المرادي. وقيل للفرزدق. والطب ـ بالكسر ـ : العادة والعاهة. وأن زائدة ، ويمكن أنها لتوكيد النفي ، أى : ليست عادتنا أو علتنا الجبن ، ولكن تلك المصيبات منايانا المقدرة لنا أو لكن علتنا منايانا. والدولة : النوبة من النصر ، لأنه يتداول بين الجيشين. والشامت : المتشفى من غيظه بما أصاب عدوه. وشبههم بالسكارى على سبيل المكنية لعدم تيقظهم للعواقب ، وأمرهم بالافاقة تخبيل ، وبين ذلك بقوله : سيلقون من الهزيمة مثل ما لقينا ، وتكون الدولة لنا عليهم فليفيقوا من سكرتهم.
(٢) قال محمود : «الذكر يكون بخير وبخلافه فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد بقيد القرينة ، فان كان الذاكر صديقا فهم منه الخير ، وإن كان عدوا فهم منه الذم» قال أحمد : وكذلك القول. ومنه قول موسى عليه السلام : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) معناه أتعيبون الحق لما جاءكم ، ثم ابتدأ فقال (أَسِحْرٌ هذا) وإنما لم يجعله معمولا للقول ومحكيا به ، لأنهم قفوا القول بأنه سحر فقالوا (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ولم يشككوا أنفسهم ، ولا استفهموا ، وقد مضى فيه غير هذا ، وإنما أطلقوا في قولهم (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) ولم يقولوا : هذا الذي يذكر آلهتكم بكل سوء ، لأنهم استفظعوا حكاية ما يقوله النبي من القدح في آلهتهم ، رميا بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ، وحاشوها من نقل ذمها مفصلا ، فأوموا إليه بالاشارة المذكورة ، كما يتحاشى المؤمن من حكاية كلمة الكفر ، فيومى إليها بلفظ يفهم المقصود بطريق التعريض. فسبحان من أضلهم حتى تأدبوا مع الأوثان ، وأساؤا الأدب على الرحمن.