قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم ، وهم معتقدون أنهم على شيء ، وجادّون في نصرة مذهبهم ، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم ، وكفى أهل التقليد سبة أنّ عبدة الأصنام منهم (أَنْتُمْ) من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به ، لأنّ العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع. ونحوه : اسكن أنت وزوجك الجنة ، أراد أن المقلدين والمقلدين جميعا ، منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة ، لاستناد الفريقين إلى غير دليل ، بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع ، لاستبعادهم أن يكون ما هم عليه ضلالا.
(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ) (٥٥)
بقوا متعجبين من تضليله إياهم ، وحسبوا أن ما قاله إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة ، لا على طريق الجدّ ، فقالوا له : هذا الذي جئتنا به ، أهو جدّ وحق ، أم لعب وهزل؟
(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(٥٦)
الضمير في (فَطَرَهُنَ) للسماوات والأرض. أو للتماثيل ، وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم ، وأثبت للاحتجاج عليهم. وشهادته على ذلك : إدلاؤه بالحجة عليه ، وتصحيحه بها كما تصحح الدعوى بالشهادة ، كأنه قال : وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات ، لأنى لست مثلكم ، فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة. كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم.
(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)(٥٨)
قرأ معاذ بن جبل : بالله. وقرئ : تولوا ، بمعنى تتولوا. ويقويها قوله (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ).
فإن قلت : ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت : أن الباء هي الأصل ، والتاء بدل من الواو المبدلة منها ، وأن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب ، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه ، لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته وتعذره ، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان ، خصوصا في زمن نمروذ مع عتوّه واستكباره وقوة سلطانه وتهالكه على نصره دينه