غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة ، وكراهتهم للحق ، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر ، يحتمل أنّ هؤلاء وصفتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة (لَناكِبُونَ) أى عادلون عن هذا الصراط المذكور ، وهو قوله (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وأن كل من لا يؤمن بالآخرة فهو عن القصد ناكب. لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز (١) ، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال : بلى. فقال قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع.
(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)(٧٧)
والمعنى : لو كشف الله عنهم هذا الضرّ وهو الهزال والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب ، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإفراطهم فيها ، ولذهب عنهم هذا الإبلاس وهذا التملق بين يديه ويسترحمونه ، واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم أوّلا بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم ، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع ، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشدّ من الأسر والقتل وهو أطم العذاب ، فأبلسوا الساعة وخضعت رقابهم ، وجاء أعتاهم وأشدّهم شكيمة في العناد يستعطفك. أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رئي فيهم لين مقادة وهم كذلك ، حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون ، كقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) ، (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ). والإبلاس : اليأس من كل خير. وقيل : السكوت مع التحير. فإن قلت : ما وزن استكان؟ قلت : استفعل من الكون (٢) ، أى : انتقل من كون
__________________
(١) قوله «حتى أكلوا العلهز» في الصحاح «الملهز» بالكسر : طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سنى المجاعة. (ع)
(٢) قال محمود : «استكان استفعل من الكون ، أى : انتقل من كون إلى كون ، كما يقال : استحال ، إذا انتقل من حال إلى حال» قال أحمد : هذا التأويل أسلم وأحق من تأويل من اشتقه من السكون وجعله افتعل ، ثم أشبعت الفتحة فتولدت الألف كتولدها في قوله ينباع من ذفرى غضوب جسرة فان هذا الاشباع ليس بفصيح ، وهو من ضرورات الشعر ، فينبغي أن ترفع منزلة القرآن عن ورود مثله فيه ، لكن تنظير الزمخشري له باستحال : وهم ، فان استكان على تأويله أحد أقسام استفعل ، الذي معناه التحول ، كقولهم : استحجر الطين ، ـ