لأنهنّ لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال ، فلا يفطنّ لما تفطن له المجربات العرافات. قال :
ولقد لهوت بطفلة ميّالة |
|
بلهاء تطلعني على أسرارها (١) |
وكذلك البله من الرجال في قوله عليه الصلاة والسلام «أكثر أهل الجنة البله».
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)(٢٥)
وقرئ : يشهد ، بالياء. والحق : بالنصب صفة للدين وهو الجزاء ، وبالرفع صفة لله ، ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به من العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع ، المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف. واستعظام ما ركب من ذلك ، واستفظاع ما أقدم عليه ، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة. كل واحد منها كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها ، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا ، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة ، وبأنّ ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا ، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ، حتى يعلموا عند ذلك (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) فأوجز في ذلك وأشبع ، وفصل وأجمل ، وأكد وكرّر ، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة ، وما ذاك إلا لأمر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : أنه كان بالبصرة يوم عرفة ، وكان يسأل عن تفسير القرآن ، حتى سئل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك. ولقد برّأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها). وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه. وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها : إنى عبد الله. وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات. فانظر ، كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلا لإظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إناقة محل سيد ولد آدم ، وخيرة الأوّلين والآخرين ، وحجة الله على العالمين. ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدّم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق ، فليتلق ذلك من آيات الإفك ، وليتأمّل كيف
__________________
(١) لهوت : تلاهيت ولعبت ، بطفلة ـ بالفتح ـ أى : امرأة ناعمة لينة ، يقال : امرأة طفلة الأنامل ، أى : رخصتها لينتها ، ميالة : مختالة ، بلهاء : غافلة لا مكر عندها ولا دهاء ، فلذلك تطلعني على ضمائرها.