لأن الذي يطرق باب غيره لا يدرى أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له استأنس ، فالمعنى : حتى يؤذن لكم كقوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) وهذا من باب الكناية والإرداف ، (١) لأنّ هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن. فوضع موضع الإذن. والثاني أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف : استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا. والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال ، هل يراد دخولكم أم لا. ومنه قولهم : استأنس هل ترى أحدا ، واستأنست فلم أر أحدا ، أى : تعرفت واستعلمت. ومنه بيت النابغة :
على مستأنس وحد (٢)
ويجوز أن يكون من الإنس ، وهو أن يتعرف هل ثمة إنسان؟ وعن أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه : قلنا يا رسول الله ، ما الاستئناس؟ قال : يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح : يؤذن أهل البيت. والتسليم أن يقول : السلام عليكم ، أأدخل؟ ثلاث مرات ، فإن أذن له وإلا رجع. وعن أبى موسى الأشعرى أنه أتى باب عمر رضى الله عنهما فقال : السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثا ثم رجع وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الاستئذان ثلاثا واستأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أألج؟ فقال صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة : قومي إلى هذا فعليه ، فإنه لا يحسن أن يستأذن. قولي له يقول : السلام عليكم أأدخل
__________________
(١) قال محمود : «فيه وجهان ، أحدهما : أنه من الاستئناس الذي هو ضد الاستيحاش ، أى : حتى يؤذن لكم فتستأنسوا ، عبر بالشيء عما هو رادف له. الثاني : أن يكون من الاستعلام من آنس إذا أبصر. والمعنى : حتى تستكشفوا الحال ، هل يراد دخولكم أم لا؟ وذكر أيضا وجها بعيدا ، وهو أن المراد حتى تعلموا هل فيها إنسان أم لا؟» قال أحمد : فيكون على هذا الأخير بنى من الانس استفعل ، والوجه الأول هو البين ، وسر التجوز فيه والعدول إليه عن الحقيقة : ترغيب المخاطبين في الإتيان بالاستئذان بواسطة ذكر فان له فائدة وثمرة تميل النفوس اليها وتنفر من ضدها وهو الاستيحاش الحاصل بتقدير عدم الاستئذان ففيه تنهيض للدواعي على سلوك هذا الأدب ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢) كأن رحلي وقد زال النهار بنا |
|
بذي الجليل على مستأنس وحد |
للنابغة ، يصف جمله بأنه كحمار الوحش المسرع خوفا مما رآه. وقال الأصمعى : زال النهار : انتصف ، ولعله لزوال الشمس فيه عن وسط السماء. ويجوز أن المعنى : مضى ولم يبق منه إلا قليل ، كما هو متبادر إسناد الزوال إلى النهار. وبنا : أى علينا. ويجوز أن الباء للملابسة. والجليل. شجر له خوص كخوص النخل. وذو الجليل : موضعه. والمستأنس : الذي يرفع رأسه ، هل يرى شخصا؟ وقيل : الذي يخاف الأنيس. واستأنست بالشيء : سكن إليه قلبي. واستأنست : استعلت واستبصرت وخفت من الأنيس. والوحد. المنفرد : ووحد كظرف ، فهو وحيد. ووحد كسبب ، ووحد كحذر : انفرد ، أى كان الرجل فوق ذلك الحمار لا فوق الجمل ، لسرعة سيره كالحمار.