ما شهدنا مهلك أهله ، فذكروا أحدهما : كانوا صادقين ، لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبى الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون بها عن الكذب (١). مكرهم : ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله. ومكر الله : إهلاكهم من حيث لا يشعرون. شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. روى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلى فيه ، فقالوا : زعم صالح عليه السلام أنه يفرغ منا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فخرجوا إلى الشعب وقالوا : إذا جاء يصلى قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم ، فبعث الله صخرة من الهضب (٢) حيالهم ، فبادروا ، فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب. فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم ، وعذب الله كلا منهم في مكانه ، ونجى صالحا ومن معه. وقيل : جاءوا بالليل شاهري سيوفهم ، وقد أرسل الله الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة : يرون الحجارة ولا يرون راميا (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) استئناف. ومن قرأ بالفتح رفعه بدلا من العاقبة ، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره : هي تدميرهم. أو نصبه على معنى : لأنا. أو على أنه خبر كان ، أى : كان عاقبة مكرهم الدمار (خاوِيَةً) حال عمل فيها ما دل عليه تلك. وقرأ عيسى بن عمر : خاوية ، بالرفع على خبر المبتدإ المحذوف.
(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(٥٥)
(وَ) اذكر (لُوطاً) أو أرسلنا لوطا لدلالة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) عليه. و (إِذْ) بدل على
__________________
ـ أنهم فعلوا الأمرين ، ومن فعل الأمرين فجحد فعل أحدهما لم يكن في فريته مرية ، وإنما كانت الحيلة تتم لو فعلوا أمرا فادعي عليهم فعل أمرين ، فجحدوا المجموع. ومن ثم لم تختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا ، فضرب زيدا وعمرا : كان حانثا ، بخلاف الحالف لا أضرب زيدا وعمرا فضرب عمرا ، ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما ، فان مثل هذا محل خلاف العلماء في الحنث وعدمه ، فإذا تمهد أن هؤلاء كاذبون صراحا في قولهم (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) وأنه لا حيلة لهم في الخلاص من الكذب ، فلا يخلو أمرهم أن يكونوا عقلاء فهم لا يتواطئون على اعتقاد الصدق بهذه الحيلة ، مع القطع بأنها ليست حيلة ، ولا شبهة لقرب جحدهم من الصدق ، فيبطل ما قال الزمخشري لاثبات قاعدة دينه على زعمه ، إذ قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل من قواعد عقائد القدرية ، بموافقة قوم غير عقلاء على صحتها ، فحسبه ما رضى به لدينه ، والسلام.
(١) قوله «حيلة يتفصون بها عن الكذب» في الصحاح «فصا الإنسان» : إذا تخلص من البلية والضيق ، وتفصيت من الديون : إذا خرجت منها وتخلصت. (ع)
(٢) قوله «صخرة من الهضب حيالهم» أى من المطر المتتابع مطرة بعد مطرة ، وقعد حياله : أى إزاءه. وأصله الواو ، أفاده الصحاح. (ع)