ولكنه مظنون بدليل قوله (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) ، وإذا ظنّ موسى عليه السلام كاذبا في إثباته إلها غيره ولم يعلمه كاذبا ، فقد ظنّ أن في الوجود إلها غيره ، ولو لم يكن المخذول ظانا ظنا كاليقين ، بل عالما بصحة قول موسى عليه السلام لقول موسى له (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) لما تكلف ذلك البنيان العظيم ، ولما تعب في بنائه ما تعب ، لعله يطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام ، وإن كان جاهلا مفرط الجهل به وبصفاته ، حيث حسب أنه في مكان كما كان هو في مكان ، وأنه يطلع إليه كما كان يطلع إليه إذا قعد في عليته ، وأنه ملك السماء كما أنه ملك الأرض. ولا ترى بينة أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته وجهل ملئه وغباوتهم : من أنهم راموا نيل أسباب السماوات بصرح يبنونه ، وليت شعري ، أكان يلبس على أهل بلاده ويضحك سن عقولهم ، حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن وأشبههم بالبهائم بذلك؟ أم كان في نفسه بتلك الصفة؟ وإن صحّ ما حكى من رجوع النشابة إليه ملطوخة بالدم ، فنهكم به بالفعل ، كما جاء التهكم بالقول في غير موضع من كتاب الله بنظرائه من الكفرة. ويجوز أن يفسر الظن على القول الأوّل باليقين ، كقوله :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّج (١)
ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادعاه من العلم واليقين ، وقد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم. أو لم تخف عليهم ، ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه ، وإنما قال (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ
__________________
ـ نفى تعلقه بوجود أمر نفى ذلك الأمر ، لجواز أن يكون موجودا عازبا عن علمه. وحينئذ لا يكون تناقضا ، ولو لم يكن حمله هذا هو الأصل لما سوغنا أن يرفع التناقض عن كلامه ، لأنه أحقر من ذلك.
(١) وكل تباريح المحب لقيتها |
|
سوى أنثى لم ألق حتفي بمرصدى |
نصحت لعارض وأصحاب عارض |
|
ورهط بنى السوداء والقوم شهدى |
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج |
|
سراتهم في الفارس المسرد |
لدريد بن الصمة ، ينذر قومه بهجوم العدو. ودريد : هو معاوية بن الحرث بن بكر بن علقمة الجثمى : قتل مشركا يوم حنين ، أى : كل الشدائد التي يلقاها المحب من محبوبه لقيتها. والحتف : الهلاك. والمرصد ، والمرصاد : الطريق ، وفي إضافته لنفسه معنى لطيف ، أى : لم أسلك طريقا فيه حتف لي ، بل أسلك غيره فطر بقي لا ضرر فيه. ونصحه ونصح له : خلص وصفا. والشهد ـ بالتشديد : جمع شاهد. ودججه تدجيجا : غطاه تغطية. والدجة ـ بالتشديد ـ : الظلمة. والدج : المشي بتؤدة. والمدجج : التام السلاح. وقيل : هو بالفتح : الفرس ، وبالكسر : الفارس. والسراة : السادة الأشراف بفتح السين ، وهي في الأصل : أعلى ظهر الحيوان ، فاستعيرت لهم ، وقد تضم ، فوزنها «فعلة» جمع سرى وزن فعيل على غير قياس ، إذ قياسه أفعلاء ، وهو في الأصل : النهر الصغير : استعير للخير الرئيس ، والفارس : الدروع المعمولة بفارس. والسرد والتسريد : متابعة النسج ، يقول : أيقنوا بهجوم جيش عظيم. والألفان : كناية عن الكثرة ، أى : جيش كثير مغطى بالسلاح ، أشرافه في الدروع الفارسية المتتابعة النسج. والظرفية دالة على سبوغ الدروع لهم. ويروى المسود بالواو وليس بذاك.