أوب ، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخوّف والتخطف ، ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام. وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة ، وإلى الحرم مجاز (يُجْبى إِلَيْهِ) تجلب وتجمع. قرئ : بالياء والتاء. وقرئ : تجنى ، بالنون ، من الجنى. وتعديته بإلى كقوله : يجنى إلىّ فيه ، ويجنى إلى الخافة (١). وثمرات : بضمتين وبضمة وسكون. ومعنى الكلية : الكثرة كقوله (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) متعلق بقوله (مِنْ لَدُنَّا) أى قليل منهم يقرون بأنّ ذلك رزق من عند الله ، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولا يفطنون له ، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده ، ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به وخلعوا أنداده. فإن قلت : بم انتصب رزقا؟ قلت : إن جعلته مصدرا جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله ، لأنّ معنى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) ويرزق ثمرات كل شيء : واحد ، وأن يكون مفعولا له. وإن جعلته بمعنى : مرزوق ، كان حالا من الثمرات لتخصصها بالإضافة ، كما تنتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ)(٥٨)
هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش ، فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر ، (٢) فدمرّهم الله وخرّب ديارهم. وانتصبت (مَعِيشَتَها) إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل ، كقوله تعالى (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) وإمّا على الظرف بنفسها ، كقولك : زيد ظنى مقيم (٣). أو بتقدير حذف الزمان المضاف ، أصله : بطرت أيام معيشتها ، كخفوق النجم ، ومقدم الحاج : وإمّا بتضمين (بَطِرَتْ) معنى : كفرت وغمطت. وقيل : البطر سوء احتمال الغنى : وهو أن لا يحفظ حق الله فيه (إِلَّا قَلِيلاً) من السكنى. قال ابن عباس رضى الله عنهما : لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوما أو ساعة ويحتمل أنّ شؤم معاصى المهلكين بقي أثره في ديارهم ، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا
__________________
(١) قوله «ويجنى إلى الخافة» في الصحاح «الخافة» : خريطة من أدم يشتار فيها بعسل. وفيه «يشتار» : يجتنى. (ع)
(٢) قوله «فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر» أى بطروها وحقروها. والأشر والبطر : شدة المرح والمرح : شدة الفرح ، كذا في الصحاح. (ع)
(٣) قوله «كقولك زيد ظنى مقيم» أى : في ظنى. (ع)