(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٨٤)
معناه : فلا يجزون ، فوضع (الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) موضع الضمير ، لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكررا. فضل تهجين لحالهم ، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلا مثل ما كانوا يعملون ، وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزى السيئة إلا بمثلها ، ويجزى الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة ، وهو معنى قوله (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها).
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٨٥)
(فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ، يعنى : أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. و (لَرادُّكَ) بعد الموت (إِلى مَعادٍ) أى معاد ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك : وقيل : المراد به مكة : ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح : ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن ، ومرجعا له اعتداد ، لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، وقهره لأهلها ، ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه. والسورة مكية ، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها : أنه يهاجر به منها ، ويعيده إليها ظاهرا ظافرا. وقيل : نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم ، فنزل جبريل فقال له : أتشتاق إلى مكة؟ قال : نعم ، فأوحاها إليه. فإن قلت : كيف اتصل قوله تعالى (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ) بما قبله؟ قلت : لما وعد رسوله الردّ إلى معاد ، قال : قل للمشركين : (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) يعنى نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعنيهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم.
(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ)(٨٦)
فإن قلت : قوله (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ما وجه الاستثناء فيه؟ قلت : هذا كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن للاستدراك ، أى : ولكن لرحمة من ربك ألقى إليك.