ودل عليه قوله على أثره (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض : لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة ، كما قال (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أى يصير إليه ، ويثبت عنده ، وبكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدّة : ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ، ثم يدبر أيضا ليوم آخر ، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة. وقيل : ينزل الوحى مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض ، ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحى أو ردّه مع جبريل ، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة ، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود ، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل ، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد. وقيل : يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله ، أى يصير إليه ليحكم فيه (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) وهو يوم القيامة. وقرأ ابن أبى عبلة : يعرج ، على البناء للمفعول. وقرئ : يعدون ، بالتاء والياء.
(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(٩)
(أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) حسنه ، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة ، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن ، كما قال (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وقيل : علم كيف يخلقه من قوله : قيمة المرء ما يحسن. وحقيقته ، يحسن معرفته أى يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان. وقرئ : خلقه : على البدل ، أى : أحسن ، فقد خلق كل شيء (١) وخلقه : على الوصف ، أى : كل شيء خلقه فقد أحسنه. سميت الذرية نسلا ؛ لأنها تنسل منه ، أى : تنفصل منه وتخرج من صلبه (٢) ونحوه قولهم للولد : سليل ونجل ، و (سَوَّاهُ) قوّمه ،
__________________
(١) قوله «أى أحسن فقد خلق كل شيء» لعل لفظ «فقد» مزيدة من قلم الناسخ. وعبارة النسفي : على البدل ، أى : أحسن خلق كل شيء ويمكن أنه ليس مزيدا ، بل هذا حاصل المعنى على البدل ، كما أن عكسه الآتي هو حاصل المعنى على الوصف. (ع)
(٢) قوله «وتخرج من صلبه» لعل قبله سقطا تقديره : كما سميت النطفة سلالة ، لأنها تسل منه. وفي الصحاح «النجل» : النسل. ونجله أبوه ، أى : ولده. (ع)