أى أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية (١) لفرط إرادتى إخفاءها ؛ ولو لا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وقيل : معناه أكاد أخفيها من نفسي ، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف ، ومحذوف لا دليل عليه مطرح. والذي غرهم منه أن في مصحف أبى : أكاد أخفيها من نفسي. وفي بعض المصاحف : أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها وعن أبى الدرداء وسعيد بن جبير : أخفيها بالفتح ، من خفاه إذا أظهره ، أى : قرب إظهارها كقوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وقد جاء في بعض اللغات : أخفاه بمعنى خفاه. وبه فسر بيت امرئ القيس :
فإن تدفنوا الدّاء لا نخفه |
|
وإن تبعثوا الحرب لا نقعد (٢) |
فأكاد أخفيها محتمل للمعنيين (لِتُجْزى) متعلق بآية (بِما تَسْعى) بسعيها.
(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)(١٦)
أى : لا يصدنك عن تصديقها والضمير للقيامة. ويجوز أن يكون للصلاة. فإن قلت : العبارة لنهى من لا يؤمن عن صدّ موسى ، والمقصود نهى موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق فكيف صلحت هذه العبارة لأداء هذا المقصود؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب. فذكر السبب ليدل على المسبب. والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته ، فذكر المسبب ليدل على السبب ، كقولهم : لا أرينك هاهنا ، المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته ، وذلك سبب رؤيته إياه. فكان ذكر المسبب دليلا على السبب ، كأنه قيل : فكن شديد الشكيمة صليب المعجم (٣) ، حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه ، يعنى : أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير
__________________
(١) قال محمود : «معناه قاربت أن لا أقول هي آتية ... الخ» قال أحمد : ولا يقنع في رد هذا التأويل بالهوينا ، فانه بين الفساد ، وذلك أن خفاءها عن الله تعالى محال عقلا ، فكيف يوصف المحال العقلي بقرب الوقوع. وأحسن ما في محامل الآية ما ذكره الأستاذ أبو على حيث قال : المراد أكاد أزيل خفاءها ، أى : أظهرها ، إذ الخفاء الغطاء ، وهو أيضا ما تجعله المرأة فوق ثيابها يسترها ، ثم تقول العرب : أخفيته ، إذا أزلت خفاءه ، كما تقول أشكيته وأعتبته ، إذا أزلت شكايته وعتبه ، وحينئذ يلتئم القراءتان : أعنى فتح الهمزة وضمها ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢) يقال : خفاه ، إذا كتمه. وخفاه أيضا : أظهره ، وماهنا منه. والمعنى : إن تكتموا الضغائن التي بيننا نكتمها نحن أيضا ولا نظهرها. شبه الضغينة والعداوة بالداء بجامع نشأة الضرر عن كل على طريق التصريحية. وشبه الحرب بحيوان على طريق المكنية ، والبعث تخييل. أو استعمل البعث في التسبب مجازا مرسلا أو استعارة تصريحية. والمعنى : وإن تظهروا البغضاء وتوقدوا الهيجاء نغلبكم كما تعلمون منا.
(٣) قوله «صليب المعجم» في الصحاح عجمت العود : إذا عضضته لتعلم صلابته من خوره. ورجل صلب المعجم : إذا كان عزيز النفس. (ع)