على ما روي عن الحسن أنها عليهاالسلام كانت عاقلة في حال الصغر فيحتمل أنها وردت عليها البشرى إذ ذاك ، وفيه بعد بل الآثار ناطقة بخلافه.
(يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) كلمة ـ من ـ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة ـ لكلمة ـ وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان تأثير الكلمة في حقه أظهروا وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلا : محض الجود ـ وعلى ذلك أكثر المفسرين ـ وأيدوا ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] ، وقيل : أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة ، ففي التوراة ـ في الفصل العشرين من السفر الخامس ـ أقبل الله تعالى من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران ـ وسينا ـ جبل التجلي لموسى ـ وساعير ـ جبل بيت المقدس وكان عيسى يتعبد فيه ـ وفاران ـ جبل مكة ، وكان متحنث سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج موافقا لما أخبر به : قد جاء كلامي ، وقيل : لأن الله تعالى يهدي به كما يهدي بكلمته.
ومن الناس من زعم أن ـ الكلمة ـ بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه ويبعده ظاهر قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) [النساء : ١٧١] ولعله يرجح أول الأقوال كما يرجحه عدم اطراد الأقوال الأخر وإن لم يكن لازما في مثل ذلك ، وفي (يُبَشِّرُكِ) هنا من القراءات مثل ما فيها فيما تقدم (اسْمُهُ) الضمير راجع إلى ـ الكلمة ـ وذكره رعاية للمعنى لكونها عبارة عن مذكر واسم مبتدأ خبره (الْمَسِيحُ) وقوله تعالى : (عِيسَى) يحتمل أن يكون بدلا ، أو عطف بيان ، أو توكيدا بالمرادف كما أشار إليه الدنوشري ، أو خبرا آخر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوبا بإضمار أعني مدحا ، وحذف المبتدأ والفعل قيل : على سبيل الجواز ومقتضى ما ذكروه في النعت المقطوع أن يكون على سبيل الوجوب ، وقوله تعالى: (ابْنُ مَرْيَمَ) صفة لعيسى وعلى تقدير كونه منصوبا يلتزم القول بالقطع على أنه خبر لمبتدإ محذوف ، ومن جعل هذه الثلاثة أخبارا عن المبتدأ أورد عليه بأن الاسم في الحقيقة (عِيسَى) و (الْمَسِيحُ) لقب ؛ و (ابْنُ) صفة فكيف جعلت الثلاثة خبرا عنه؟! وأجيب بأن المراد بالاسم معناه المصطلح وهو العلم مطلقا وليس هو بمعنى مقابل اللقب بل ما يعمه وغيره وأن إضافته تفيد العموم لأن إضافة اسم الجنس قد يقصد بها الاستغراق ، وإن إطلاقه على ابن مريم على طريق التغليب ، وقيل : المراد بالاسم معناه اللغوي ـ وهو السمة والعلامة المميزة ـ لا العلم.
ولا مانع حينئذ من جعل مجموع الثلاثة خبرا إذ التمييز بذلك أشد من التمييز بكل واحد فيؤول المعنى إلى قولك الذي يعرف به ويميز به عما سواه مجموع الثلاثة وبهذا ـ كما في الانتصاف ـ خلاص من إشكال يوردونه فيقولون : (الْمَسِيحُ) في الآية إن أريد به التسمية ـ وهو الظاهر ـ فما موقع (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) والتسمية لا توصف بالنبوة؟! وإن أريد به المسمى بهذه التسمية لم يلتئم مع قوله سبحانه : (اسْمُهُ) ووجه الخلاص ظاهر ، ولعدم ظهور هذا التوجيه لبعضهم التزم الخلاص من ذلك بأن المسيح خبر عن قوله تعالى : (اسْمُهُ) والمراد التسمية ، وأما (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) فخبر مبتدأ محذوف تقديره هو ، ويكون الضمير عائدا إلى المسمى بالتسمية المذكورة منقطعا عن (الْمَسِيحُ) والمشهور أن (الْمَسِيحُ) لقبه عليهالسلام وهو له من الألقاب المشرفة كالفاروق ، وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك ، وعن إبراهيم النخعي الصديق ، وعن ابن عمرو بن العلاء الملك ، و (عِيسَى) معرب أيشوع ، ومعناه السيد ، وعن كثير من السلف أن (الْمَسِيحُ) مشتق من المسح ، واختلفوا في وجه إطلاقه على عيسى عليه