وقال الراغب : عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حفظهم بما خصوا به من صفاء الجوهر ، ثم بما أولاهم من الأخلاق والفضائل ، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم ، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق ، وقيل : المراد بالعصمة الحفظ من صدور الذنب ، والمعنى بلغ والله تعالى يمنحك الحفظ من صدور الذنب من بين الناس ، أي يعصمك بسبب ذلك دونهم ، ولا يخفى أن هذا توجيه لم يصدر إلا ممن لم يعصمه الله تعالى من الخطأ ، ومثله ما نقل عن علي بن عيسى في قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) حيث قال : لا يهديهم بالمعونة والتوفيق والألطاف إلى الكفر بل إنما يهديهم إلى الإيمان ، وزعم أن الذي دعاه إلى هذا التفسير أن الله تعالى هدى الكفار إلى الإيمان بأن دلهم عليه ورغبهم فيه وحذرهم من خلافه ، وأنت قد علمت المراد بالآية على أن في كلامه ما لا يخفى من النظر ، وقال الجبائي : المراد لا يهديهم إلى الجنة والثواب ، وفيه غفلة عن كون الجملة في موضع التعليل ، وزعم بعضهم أن المراد أن عليك البلاغ لا الهداية ، فمن قضيت عليه بالكفر والوفاة عليه لا يهتدي أبدا ـ وهو كما ترى ـ فليفهم جميع ما ذكرناه في هذه الآية وليحفظ فإني لا أظن أنك تجده في كتاب.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «رسالاته» على الجمع ، وإيراد الآية في تضاعيف الآية الواردة في أهل الكتاب لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على الرسول صلىاللهعليهوسلم مشافهتهم بها ، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالهم ، ولذلك أعيد الأمر فقال سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) ، والمراد بهم اليهود والنصارى ـ كما قال بعض المفسرين ـ وقال آخرون : المراد بهم اليهود ، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : جاء رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة «فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله تعالى حق؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم. قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك» فأنزل الله تعالى فيهم قال يا أهل الكتاب (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئا لظهور بطلانه ووضوح فساده ، وفي هذا التعبير ما لا يخفى من التحقير ، ومن أمثالهم أقل من لا شيء (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة النبي صلىاللهعليهوسلم وشواهد نبوته ، فإن إقامتهما وتوفية حقوقهما إنما تكون بذلك لا بالعمل بجميع ما فيهما منسوخا كان أو غيره ، فإن مراعاة المنسوخ تعطيل لهما وردّ لشهادتهما (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي القرآن المجيد ، وإقامته بالإيمان به ، وقدمت إقامة الكتابين على إقامته ـ مع أنها المقصودة بالذات ـ رعاية لحق الشهادة واستنزالا لهم عن رتبة الشقاق.
وقيل : المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : الكتب الإلهية ، فإنها كلها ناطقة بوجوب الإيمان بمن ادعى النبوة وأظهر المعجزة ووجوب طاعة من بعث إليهم له ، وقد مر تمام الكلام على مثل هذا النظم الكريم وكذا على قوله تعالى :
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) والجملة مستأنفة ـ كما قال شيخ الإسلام مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعا ، وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيقه ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ مع نسبته فيما مر إليهم ـ للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة ، وإذا أريد بالموصول النعم التي أعطيها صلىاللهعليهوسلم فأمر النسبة ظاهر جدا.