(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي لا تأسف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم ، فإن غائلة ذلك موصولة بهم وتبعته عائدة إليهم ، وفي المؤمنين غنى لك عنهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر ، وقيل : المراد لا تحزن على هلاكهم وعذابهم ، ووضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على العلة الموجبة لعدم الأسى ، ولا يخلو عن بعد (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف مسوق للترغيب في الإيمان والعمل الصالح.
وقد تقدم في آية البقرة الاختلاف في المراد ـ من الذين آمنوا ـ والمروي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم ـ وهم المنافقون ـ وهو الذي اختاره الزجاج ، واختار القاضي أن المراد بهم المتدينون بدين محمدصلىاللهعليهوسلم مخلصين كانوا أو منافقين ، وقيل : غير ذلك (وَالَّذِينَ هادُوا) أي دخلوا في اليهودية (وَالصَّابِئُونَ) ، وهم كما قال حسن جلبي وغيره : قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة ؛ وقد تقدم الكلام على ذلك ، وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة للجلال السيوطي ما لفظه : ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث ـ وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين ـ وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر ، وكانت تدعى بايلون فنزلها هو وأولاد أخيه ، فسكن شيث فوق الجبل ، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي ، واستخلف شيث ابنه أنوش واستخلف أنوش ابنه قونان ، واستخلف قونان ابنه مهلائيل ، واستخلف مهلائيل ابنه يرد ، ودفع الوصية إليه وعلمه جميع العلوم وأخبره بما يحدث في العالم ، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة والسلام ، وولد ليرد أخنوخ ـ وهو إدريس عليه الصلاة والسلام ـ ويقال له : هرمس ، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل ، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة ، وأراد به الملك سوءا فعصمه الله تعالى وأنزل عليه ثلاثين صحيفة ، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده وكان قد ولد بمصر وخرج منها ، وطاف الأرض كلها ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى فأجابوه حتى عمت ملته الأرض ، وكانت ملته الصابئة ، وهي توحيد الله تعالى والطهارة والصوم ، وغير ذلك من رسوم التعبدات ، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها ، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرها ، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن به ـ إلى آخر ما قاله ـ ونقله عن التيفاشي ، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة وفي شذرات الذهب لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحاق الصابئي ما نصه : والصابئي بهمز آخره ، قيل : نسبة إلى صابئي بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة والسلام ، وكان على الحنيفية الأولى ، وقيل : الصابئي بن ماوي ، وكان في عصر الخليل عليه الصلاة والسلام ، وقيل : الصابئ عند العرب من خرج عن دين قومه انتهى (وَالنَّصارى) جمع نصران ، وقد مر تفصيله ، ورفع (الصَّابِئُونَ) على الابتداء وخبره محذوف لدلالة خبر ـ إن ـ عليه ، والنية فيه التأخير عما في خبر (إِنَ) والتقدير (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى) حكمهم كيت وكيت (وَالصَّابِئُونَ) كذلك بناء على أن المحذوف في إن زيدا ، وعمرو قائم خبر الثاني لا الأول كما هو مذهب بعض النحاة ، واستدل عليه بقول: صابئ بن الحارث البرجمي :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله |
|
فإني ، وقيار بها لغريب |
فإن قوله : «لغريب» خبر إن ، ولذا دخلت عليه اللام لأنها تدخل على خبر «إن» لا على خبر المبتدأ إلا شذوذا ، وقيل : إن «غريب» فيه خبر عن الاسمين جميعا لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره نحو (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] ، ورده الخلخالي بأنه لم يرد للاثنين ، وإن ورد للجمع ، وأجاب عنه ابن هشام بأنهم قالوا في قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧] : إن المراد قعيدان ، وهذا يدل على إطلاقه على الاثنين أيضا ، فالصواب