عنه هاربين مخافة العدوى (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) فذهب بخفية إلى أصنامهم التي يعبدونها ، وأصل الروغان ميل الشخص في جانب ليخدع من خلفه فتجوز به عما ذكر لأنه المناسب هنا (فَقالَ) للأصنام استهزاء (أَلا تَأْكُلُونَ) من الطعام الذي عندكم ، وكان المشركون يضعون في أيام أعيادهم طعاما لدى الأصنام لتبرك عليه ، وأتى بضمير العقلاء لمعاملته عليهالسلام إياهم معاملتهم (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) بجوابي (فَراغَ عَلَيْهِمْ) فمال مستعليا عليهم وقوله تعالى (ضَرْباً) مصدر لراغ عليهم باعتبار المعنى فإن المراد منه ضربهم أو لفعل مضمر هو مع فاعله حال من فاعله أي فراغ عليهم يضربهم ضربا أو هو حال منه على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي ضاربا أو مفعول له أي لأجل ضرب. وقرأ الحسن «سفقا» و «صفقا» أيضا (بِالْيَمِينِ) أي باليد اليمين كما روي عن ابن عباس ، وتقييد الضرب باليمين للدلالة على شدته وقوته لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما في الغالب وقوة الآلة تقتضي شدة الفعل وقوته أو بالقوة على أن اليمين مجاز عنها.
روي أنه عليهالسلام كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس فيضربها بكمال قوته ، وقيل المراد باليمين الحلف ، وسمي الحلف يمينا إما لأن العادة كانت إذا حلف شخص لآخر جعل يمينه بيمينه فحلف أو لأن الحلف يقوي الكلام ويؤكده ، وأريد باليمين قوله عليهالسلام (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] والباء عليه للسببية أي ضربا بسبب اليمين الذي حلفه قبل وهي على ما تقدم للاستعانة أو للملابسة (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) أي إلى إبراهيم عليهالسلام بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر وقولهم (فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) [الأنبياء : ٦١] (يَزِفُّونَ) حال من واو أقبلوا أي يسرعون من زف النعام أسرع لخلطه الطيران بالمشي ومصدره الزف والزفيف ، وقيل (يَزِفُّونَ) أي يمشون على تؤدة ومهل من زفاف العروس إذ كانوا في طمأنينة من أن ينال أصنامهم بشيء لعزتها ، وليس بشيء.
وقرأ حمزة ومجاهد وابن وثاب والأعمش «يزفّون» بضم الياء من أزف دخل في الزفيف فالهمزة ليست للتعدية أو حمل غيره على الزفيف فهي لها قاله الأصمعي وقرأ مجاهد أيضا وعبد الله بن يزيد والضحاك ويحيى بن عبد الرحمن المقري وابن أبي عبلة «يزفون» مضارع وزف بمعنى أسرع ، قال الكسائي ، والفراء : لا نعرف وزف بمعنى زف وقد أثبته الثقات فلا يضر عدم معرفتهما. وقرئ «يزفون» بالبناء للمفعول ، وقرئ «يزفون» بسكون الزاي من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه (قالَ) بعد أن أتوا به عليهالسلام وجرى ما جرى من المحاورة على سبيل التوبيخ والإنكار عليهم (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي الذي تنحتونه من الأصنام فما موصولة حذف عائدها وهو الظاهر المتبادر ، وجوز كونها مصدرية أي أتعبدون نحتكم ، وتوبيخهم على عبادة النحت مع أنهم يعبدون الأصنام وهي ليست نفس النحت للإشارة إلى أنهم في الحقيقة إنما عبدوا النحت لأن الأصنام قبله حجارة ولم يكونوا يعبدونها وإنما عبدوها بعد أن نحتوها ففي الحقيقة ما عبدوا إلا نحتهم ، وفيه ما فيه (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) في موضع الحال من ضمير (تَعْبُدُونَ) لتأكيد الإنكار والتوبيخ والاحتجاج على أنه لا ينبغي تلك العبادة ، وما موصولة حذف عائدها أيضا أي خلقكم وخلق الذي تعملونه أي من الأصنام كما هو الظاهر ، وهي عبارة عن مواد وهي الجواهر الحجرية وصور حصلت لها بالنحت ؛ وكون المواد مخلوقة له عزوجل ظاهر ، وكون الصور والأشكال كذلك مع أنها بفعلهم باعتبار أن الأقدار على الفعل وخلق ما يتوقف عليه من الدواعي والأسباب منه تعالى ، وكون الأصنام وهي ما سمعت معمولة لهم باعتبار جزئها الصوري فهو مع كونه معمولا لهم مخلوق لله تعالى بذلك الاعتبار فلا إشكال.
وفي المتمة للمسألة المهمة تأليف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة صريح الكلام دال على أن الله تعالى