المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان سبب هذه استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة ، وقال الميبدي : الحق أن السبب الذي ذكره صاحب المعتبر معتبر لا محالة إلا أنه غير مانع من اعتبار السبب الذي ذكر يعني ما شاع ، واحتجاجه في المنع إنما يدل على أنه لا يجوز أن يكون ذلك هو السبب التام لا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك سببا في الجملة اه.
وفي شرح المواقف اختلفوا في أن المياه متولدة من أجزاء مائية متفرقة في عمق الأرض إذا اجتمعت أو من الهواء البخاري الذي ينقلب ماء. وهذا الثاني وإن كان ممكنا إلا أن الأول أولى لأن مياه العيون والقنوات والآبار تزيد بزيادة الثلوج والأمطار ، والأولى عندي أن يحمل الماء في الآية على المطر ونحوه من الثلج ، والآية تدل على أن ذلك الماء يسلكه الله تعالى في ينابيع في الأرض ولا تدل على أن ما في الينابيع ليس إلا ذلك الماء فيجوز أن يكون بعض ما فيها هو الماء المنزل من السماء والبعض الآخر حادثا من الهواء البخاري بانقلابه ماء بأسباب يعلمها الله عزوجل ، وحمل الإنزال على الإنزال في مبدأ الخليقة على ما سمعت مع كونه مما لم أقف على خبر صحيح يقتضيه خلاف الظاهر في الآية جدا لأن الخطاب في (أَلَمْ تَرَ) عام ولا يتأتى العموم في رؤية ذلك ، وكأنه يتعين عليه جعل الخطاب خاصا بسيد المخاطبين صلىاللهعليهوسلم والمراد ألم تعلم ذلك بالوحي ومع ذلك لا يخفى حال حمل الآية على ما ذكر ، وقريب مما قيل ما حكاه الزمخشري في الآية عن بعض من أن كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله تعالى بين البقاع ، هذا لكن يعكر على ما اخترناه ظاهر ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : ليس في الأرض ماء إلا ما أنزل الله تعالى من السماء ولكن عروق في الأرض تغيره فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعد. وأخرج نحوه عن سعيد بن جبير والشعبي ، فإن صح هذا الخبر وقلنا إنه في حكم المرفوع فما علينا إذا قلنا بظاهره فالعقل لا يأباه والله تعالى على كل شيء قدير ، هذا وجوز أن تكون الينابيع جمع ينبوع بمعنى النابع فإنه كما يطلق على المنبع يطلق على ما ذكر وحينئذ تكون منصوبة على الحال ، والمعنى فسلكه مياها نابعة في الأرض ، ولا يخلو من الكدر لأنه لو قصد هذا كان الظاهر أن يقال من الأرض وعلى ما هو المشهور يكون (يَنابِيعَ) منصوبا بنزع الخافض كما أشرنا إليه. واحتمال كونه منصوبا على المصدرية في إطلاقية بأن يكون الأصل فسلكه سلوكا في ينابيع أي مجاري فحذف المصدر وأقيم ما هو في موضع الصفة مقامه أو يكون الأصل فسلكه سلوك ينابيع أي مياه نابعة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه بعيد كما لا يخفى.
(ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ) أي بواسطته مراعاة للحكمة لا لتوقف الإخراج عليه في نفس الأمر ، وقالت الأشاعرة : أي يخرج عنده بلا مدخلية له بوجه من الوجوه سوى المقارنة (زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي أنواعه وأصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفياته المدركة بالبصر من خضرة وحمرة وغيرهما أو كيفياته مطلقا من الألوان والطعوم وغيرهما على ما قيل ، وشمل الزرع المقتات وغيره ، وثم للتراخي في الرتبة أو الزمان ، وصيغة المضارع لاستحضاره الصورة (ثُمَّ يَهِيجُ) ييبس ، وظاهر كلام أهل اللغة أن هذا معنى حقيقي للهيجان ، ويفهم من كلام بعض المفسرين أن يهيج بمعنى يثوب واستعماله بمعنى ييبس من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا يبس وتم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) من بعد خضرته ونضارته. وقرئ «مصفارا» (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) فتاتا متكسرا كأن لم يغن بالأمس ، ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج. وقرأ أبو بشر «ثم يجعله» بالنصب قال صاحب الكامل وهو ضعيف ولم يبين وجه النصب ، وكأنه إضمار أن كما في قوله :