أرض الآخرة التي يمشي عليها تسمى أرضا حقيقة فذاك وإلا فإطلاقهم الأرض على ذلك من باب الاستعارة تشبيها له بأرض الدنيا ، والظاهر الأول ، وحكي عن قتادة وابن زيد والسدي أن المراد أرض الدنيا وليس بشيء ، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه بناء على أنه لا ملك في الآخرة لغيره عزوجل وإنما هو إباحة التصرف والتمكين مما هو ملكه جل شأنه ، وقيل : ورثوها من أهل النار فإن لكل منهم مكانا في الجنة كتب له بشرط الإيمان.
(نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي يتبوأ كل منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة لا أن كلا منهم يتبوأ في أي مكان من مطلق الجنة أو من جنات غيره المعينة لذلك الغير ، فلا يقال : إنه يلزم جواز تبوء الجميع في مكان واحد وحدة حقيقة وهو محال أو أن يأخذ أحدهم جنة غيره وهو غير مراد ، وقيل : الكلام على ظاهره ولكل منهم أن يتبوأ في أي مكان شاء من مطلق الجنة ومن جنات غيره إلا أنه لا يشاء غير مكانه لسلامة نفسه وعصمة الله تعالى له عن تلك المشيئة ، وقال الإمام : قالت حكماء الإسلام : إن لكلّ جنتين جسمانية وروحانية ومقامات الثانية لا تمانع فيها فيجوز أن يكون في مقام واحد منها ما لا يتناهى من أربابها ، وهذه الجملة حالية فالمعنى أورثنا مقامات الجنة حالة كوننا نسرح في منازل الأرواح كما نشاء.
وقد قال بعض متألهي الحكماء : الدار الضيقة تسع ألف ألف من الأرواح والصور المثالية التي هي أبدان المتجردين عن الأبدان العنصرية لعدم تمانعها كما قيل :
سم الخياط مع الأحباب ميدان
وفسر المقام الروحاني بما تدركه الروح من المعارف الإلهية وتشاهده من رضوان الله تعالى وعنايته القدسية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وتعقب بأن هذا إن عد من بطون القرآن العظيم فلا كلام وإلا فحمل الجنة على مثل ذلك مما لا تعرفه العرب ولا ينبغي أن يفسر به ، على أنه ربما يقال : يرد عليه أنه يقتضي أن لكل أحد أن يصل إلى مقام روحاني من مقاماتها مع أن منها ما يخص الأنبياء المكرمين والملائكة المقربين ، والظاهر أنه لا يصل إلى مقاماتهم كل أحد من العارفين فافهم ولا تغفل (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) من كلام الداخلين عند الأكثر والمخصوص بالمدح محذوف أي هذا الأجر أو الجنة ، ولعل التعبير ـ بأجر العاملين ـ دون أجرنا للتعريض بأهل النار أنهم غير عاملين ، وقال مقاتل : هو من كلام الله تعالى (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) أي محدقين من الحفاف بمعنى الجانب جمع حاف كما قال الأخفش ، وقال الفراء : لا يفرد فقيل : أراد أن المفرد لا يكون حافا إذ الإحداق والإحاطة لا يتصور بفرد وإنما يتحقق بالجمع ، وقيل : أراد أنه لم يرد استعمال مفرده. وأورد على الأول أن الإحاطة بالشيء بمعنى محاذاة جميع جوانبه فتصور في الواحد بدورانه حول الشيء فإنه حينئذ يحاذي جميع جوانبه تدريجا فيكون الحفوف بمعنى الدوران حوله أو يراد بكونه حافا أنه جزء من الحاف وله مدخل في الحفوف ، ولو صح ما ذكر لم يصح أن يقال : طائف أو محدق أو محيط أو نحوه مما يدل على الإحاطة. وأورد على الثاني أنا لم نجد ورود جمع سالم لم يرد استعمال مفرده فبعد ورود حافين الظاهر ورود حاف كما لا يخفى ، والخطاب لسيد المخاطبين صلىاللهعليهوسلم ، وجوز أن يكون لكل من تصح منه الرؤية كأنه قيل : وترى أيها الرائي الملائكة حافين (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي حول العرش على أن (مِنَ) مزيدة على رأي الأخفش وهو الأظهر ، وقيل : هي للابتداء ـ فحول العرش ـ مبتدأ الحفوف وكأن الحفوف حينئذ للخلق ، وفي بعض الآثار ما هو ناطق بذلك ، وفيها ما يدل على أن العرش يوم فصل القضاء يكون في الأرض حيث يشاء الله تعالى والأرض يومئذ غير هذه الأرض ،