وركعتان عشيا ، قيل : لأن الواجب بمكة كان ذلك ، وقد قدمنا أن الحس لا يقول بفرضية الصلوات الخمس بمكة فقيل : كان يقول بفرضية ركعتين بكرة وركعتين عشيا.
وقيل : إنه يقول كان الواجب ركعتين في أي وقت اتفق ، والكل مخالف للصريح المشهور ، وجوز على إرادة الدوام أن يراد بالتسبيح الصلاة ويراد بذلك الصلوات الخمس ، وحكي ذلك في البحر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) دلائله سبحانه التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة وما أظهر على أيدي رسله من المعجزات (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي بغير حجة في ذلك أتتهم من جهته تعالى ، والجار متعلق ـ بيجادلون ـ وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيان الحجة للإيذان بأن المتكلم في أمر الدين لا بدّ من استناده إلى حجة واضحة وبرهان مبين ، وهذا عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في قوم مخصوصين وهم على الأصح مشركو مكة.
وقوله تعالى : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) خبر لأن و (إِنَ) نافية ، والمراد بالصدور القلوب أطلقت عليها للمجاورة والملابسة ، والكبر التكبر والتعاظم أي ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق وتعاظم عن التفكر والتعلم أو هو مجاز عن إرادة الرئاسة والتقدم على الإطلاق أو إرادة أن تكون النبوة لهم أي ما في قلوبهم إلا إرادة الرئاسة أو أن تكون النبوة لهم دونك حسدا وبغيا حسبما قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وقالوا : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] ولذلك يجادلون في آياته تعالى لا أن فيها موقع جدال ما أو أن لهم شيئا يتوهم صلاحيته لأن يكون مدار لمجادلتهم في الجملة ، وقوله تعالى : (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) صفة ـ لكبر ـ أي ما هم ببالغي موجب الكبر ومقتضيه وهو متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من الرئاسة أو النبوة ، وقال الزجاج : المعنى ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر عليك وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله تعالى أذلهم ، وقيل : الجملة مستأنفة وضمير (بِبالِغِيهِ) لدفع الآيات المفهوم من المجادلة ، وما تقدم أظهر ، وقال مقاتل : المجادلون الذين نزلت فيهم الآية اليهود عظموا أمر الدجال فنزلت ، وإلى هذا ذهب أبو العالية أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال : إن اليهود أتوا النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ويكون من أمره ما يكون فعظموا أمره وقالوا : يصنع كذا وكذا فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) إلخ ، وهذا كالنص في أن أمر اليهود كان السبب في نزولها ، وعليه تكون الآية مدنية وقد مر الكلام في ذلك فتذكر. وفي رواية أن اليهود كانوا يقولون : يخرج صاحبنا المسيح بن داود يريدون الدجال ويبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك ، حكاها في الكشاف ثم قال : فسمى الله تعالى تمنيهم ذلك كبرا ونفى سبحانه أن يبلغوا متمناهم ، ويخطر لي على هذا القول إن اليهود لم يريدوا من تعظيم أمر الدجال سوى نفي أن يكون نبينا صلىاللهعليهوسلم النبي المبعوث في آخر الزمان الذي بشر به أنبياؤهم وزعم أن المبشر به هو ذلك اللعين ، ففي بعض الروايات أنهم قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام : لست صاحبنا ـ يعنون النبي المبشر به أنبياؤهم ، فالإضافة لأدنى ملابسة بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر ويسير معه الأنهار ، وفي ذلك بزعمهم دفع الآيات الدالة على نبوة النبي صلىاللهعليهوسلم والداعي لهم إلى ذلك الكبر والحسد وحب أن لا تخرج النبوة من بني إسرائيل ، فمعنى الآية عليه نحو معناها على القول بكون المجادلين مشركي مكة. ثم إن اليهود عليهم اللعنة كذبوا أولا بقولهم للنبي عليه الصلاة والسلام : لست صاحبنا ، وثانيا بقولهم : بل هو المسيح بن داود يعنون الدجال ، أما الكذب الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأنه لم يبعث نبي إلا وقد حذر أمته الدجال وأنذرهم إياه كما نطقت بذلك الأخبار ، وهم قالوا : هو صاحبنا يعنون المبشر ببعثته آخر الزمان ، وكل ذلك من الجدال في آيات الله تعالى بغير سلطان (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي فالتجئ إليه تعالى من كيد من يحسدك ويبغي عليك ، وفيه رمز إلى أنه من