«ينزفون» بضم الياء وكسر الزاي وتابعهما عاصم في الواقعة على أنه من أنزف الشارب إذا صار ذا نزف أي عقل أو شراب نافد ذاهب فالهمزة فيه للصيرورة ، وقيل للدخول في الشيء ولذا صار لازما فهو مثل كبه فأكب ، وهو أيضا بمعنى السكر لنفاد عقل السكران أو نفاد شرابه لكثرة شربه فيلزمه عليهما السكر ثم صار حقيقة فيه ، قال الأبيرد اليربوعي :
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم |
|
لبئس الندامى كنتم آل أبجرا |
وفي البحر أن أنزف مشترك بين سكر ونفذ فيقال أنزف الرجل إذا سكر وأنزف إذا نفد شرابه ، وتعدية الفعل للتضمين كما سبق ، وجوز إرادة معنى النفاد من غير إرادة معنى السكر أي لا ينفد ولا يفنى شرابهم حتى ينغص عيشهم وليس بذاك. وقرأ ابن أبي إسحاق «ينزفون» بفتح الياء وكسر الزاي ، وطلحة بفتح الياء وضم الزاي ، والمراد في جميع ذلك نفي السكر على ما هو المأثور عن الجمهور. ومن الغريب ما أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله تعالى خمر الجنة عنها لا فيها غول لا تغول عقولهم من السكر ولا هم عنها ينزفون لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها ، وهو أقرب لاستعمال النزف في الأمور الحسية كنزف البئر والركية وما أشبه القيء وإخراج الفضلات من الجوف بنزف البئر وإخراج مائها عند نزحها ، ولو لا أن الجمهور على ما سمعت أولا حتى ابن عباس في أكثر الروايات عنه لقلت : إن هذا التفسير هو الأولى (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد فمتعلق القصر محذوف للعلم به ، والكلام إما على ظاهره أو كناية عن فرط محبتهن لأزواجهن وعدم ميلهن إلى سواهم ، وقيل المراد لا يفتحن أعينهن دلالا وغنجا ، والوصف على القولين متعد ، وجوز كونه قاصرا على أن المعنى ذابلات الجفن مراضه ، وما أحيل ذبول الأجفان في الغواني الحسان ، ولذا كثر التغزل بذلك قديما وحديثا ، ومنه قول ابن الأزدي :
مرضت سلوتي وصح غرامي |
|
من لحاظ هي المراض الصحاح |
والطرف في كل ذلك طرفهن ، وجوز أن يكون الوصف متعديا والطرف طرف غيرهن ، والمعنى قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز إلى سواهن لغاية حسنهن فلا يتجاوزهن طرف الناظر إليهن كقول المتنبي :
وخصر تثبت الأبصار فيه |
|
كأن عليه من حدق نطاقا |
وقد ذكر هذا المعنى أيضا ابن رشيق في قول امرئ القيس :
من القاصرات الطرف لو دب محول |
|
من الذر فوق الأنف منها لأثرا |
وهو لعمري رشيق بيد أني أقول : الظاهر هنا أن العندية في مجالس الشرب إتماما للذة فلعل الأوفق للغيرة وإن كانت الحظيرة حظيرة قدس المعنى الأول ، والجمهور قد قصروا الطرف عليه ولا يظن بهم أنهم من القاصرين ، والجملة قيل عطف على ما قبلها ، وقيل : في موضع الحال أي يطاف عليهم بكأس والحال عندهم نساء قاصرات الطرف (عِينٌ) جمع عيناء وهي الواسعة العين في جمال ، ومنه قيل للبقر الوحشي عين ، وقيل : العيناء واسعة العين أي كثيرة محاسن عينها ، والحق أن السعة اتساع الشق والتقييد بالجمال يدفع ما عسى أن يقال ، وما ألطف وأظرف ذكر عين بعد قاصرات الطرف (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) البيض معروف وهو اسم جنس الواحدة بيضة ويجمع على بيوض كما في قوله :
بتيهاء قفر والمطي كأنها |
|
قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها |